يهدد انهيار أسعار
النفط استقرار المملكة السعودية ولكن لا يملك أحد إجابة قطعية بسبب وجود عدد كبير من المتغيرات التي يمكن أن تؤثر في مجريات الأمور بأشكال متباينة
في الأسبوع الماضي اتخذت المجموعة النفطية أوبيك قراراً ضد خفض الإنتاج رغم الفائض الذي يغرق السوق العالمية، الأمر الذي دفع سعر خام برنت إلى التراجع إلى أدنى مستوياته منذ أربعة أعوام إلى سعر 73 دولاراً للبرميل.
نجحت منظمة الأقطار المصدرة للنفط على مدى الأعوام الثلاثة الماضية في إبقاء الأسعار عند معدل 100 دولار للبرميل، وهو السعر الذي تعتبره بعض الدول الأعضاء مثل المملكة العربية السعودية والكويت وإيران والإمارات العربية المتحدة وقطر مقبولاً.
ولكن مع الازدهار الذي تشهده صناعة استخراج النفط الصخري في الولايات المتحدة – والذي ارتفع معدله من خمسة ملايين برميل في اليوم عام 2011 إلى 5ر8 مليون برميل في عام 2014 – خرجت أسواق النفط العالمية عن سيطرة أوبيك. يقول الأمين العام لمنظمة أوبيك عبد الله البدري: "تواجه منظمة أوبيك أكبر تحد لها منذ ثمانينيات القرن الماضي" فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للشرق الأوسط وبالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية؟
تتوقف الإجابة على هذا السؤال على من توجهه له. وإن كنت أجزم أن أحداً لا يملك إجابة قطعية عليه أخذاً بعين الاعتبار وجود العديد جداً من المتغيرات غير المعلومة، أو كما عبر عنه ذات مرة دونالد رمسفيلد بالقول: "هناك مجاهيل معلومة وهناك مجاهيل غير معلومة".
لسنوات طويلة، كان سعر 70 إلى 80 دولارا للبرميل يعتبر سعراً مقبولاً لدى الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك كان قبل أن يحدث
الربيع العربي، وتهدد الانتفاضات الشعبية شرعية العديد من الدول الأعضاء في الأوبيك. فقد أسقطت هذه
الثورات الشعبية القذافي في ليبيا، ورغم أن تونس ومصر ليستا عضوين في أوبيك، إلا أن الربيع العربي تمخض عن تغيير في الأنظمة في هذين البلدين. ما يحدث تجاهله في كثير من الأوقات هو الدور الأساسي الذي لعه ارتفاع أسعار المواد الغذائية في مد الثورات الشعبية بالوقود.
تقول جين هاريغان من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن: “من الواضح أن الربيع العربي تعلق بأكثر من مجرد الغذاء، إلا أن ذلك كان له دوره بالتأكيد. فقد كان ارتفاع أسعاد المواد الغذائية بمثابة المسمار الأخير في نعش الأنظمة التي فشلت في الوفاء بالشق الذي يلزمها من العقد الاجتماعي.”
سعياً منها في منع تكرار ما جرى في كل من ليبيا ومصر وتونس، على سبيل المثال، عمدت الأنظمة الاستبدادية في كل من المملكة العربية السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة إلى زيادة الإنفاق الحكومي، وخاصة على شكل دعم للمواد الغذائية، بهدف إرضاء مواطنيها وضمان ولائهم.
كما قامت المملكة العربية السعودية وإيران ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ انطلاقة الربيع العربي ببناء مستشفيات ومدارس جديدة وإقامة بنى تحتية حيوية ووضع المزيد من "البيروقراطية" (المتمثلة في خلق وظائف بلا أدوار حقيقية ولا مسؤوليات) على كاهل الخزانة العامة كوسيلة من وسائل الاحتفاظ بالسلطة والشرعية. كما عمدت هذه الأنظمة إلى زيادة الدعم الحكومي، وإلى رفع رواتب العاملين في القطاع العام ووسعت نطاق البدلات. وبحسب تقرير صادر عن دويتش بانك فإن كافة البلدان التي تأثرت بالربيع العربي عانت من عجز مالي متضخم.
وطبقاً لما يقوله صندوق النقد الدولي فإن الإمارات العربية المتحدة بحاجة إلى أن يكون سعر برميل النفط أكثر من ثمانين دولاراً حتى تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المالية، وهذا ارتفاع كبير مقارنة بما كان عليه عام 2008، حيث كان يكفيها للوفاء بالتزاماتها ألا يتجاوز سعر البرميل الواحد 25 دولاراً. في أكتوبر قام صندوق النقد الدولي بتقييم لأسعار النفط التي تحتاجها الحكومات المختلفة حتى تتمكن من الوفاء بميزانياتها، وخلص إلى أن الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة يكفيها أن يكون سعر برميل النفط 70 دولاراً، أما إيران فتحتاج لأن يكون سعر البرميل 136 دولاراً.
تقول ماري كلير عون، مدير مركز الطاقة في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس: “بإمكان المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر أن تعيش على أسعار نفط منخفضة نسبياً إلى فترة معينة من الزمن، ولكن لا ينطبق نفس الأمر على إيران والعراق ونيجيريا وفنزويلا والجزائر وأنغولا. فالضغط السكاني في هذه البلدان يزيد من حاجة حكوماتها إلى إنفاق المزيد على الطاقة وعلى قطاع الخدمات بشكل عام. ونظراً لأن هذه الدول فشلت في تنويع مواردها الاقتصادية يظل سعر النفط الخام أمراً في غاية الحيوية.”
إلا أن هناك من يرى بأن النفط الرخيص يعد بمثابة أخبار سارة للدول العربية الضعيفة اقتصادياً والتي ماتزال تناضل من أجل التعافي من آثار الربيع العربي. وحسب تقديرات جاسون توفيي، الخبير بشؤون الشرق الأوسط الاقتصادية في كابيتول إيكونوميكس التي تتخذ من لندن مقراً لها، فإن مصر والمغرب وتونس والأردن ولبنان ستوفر حوالي 4 مليار دولار في فاتورة الاستيراد السنوية الجماعية مقابل كل انخفاض قدره 10 دولارا في سعر البرميل الواحد لو استقر الحال على ذلك.
ولكن لا يشاطر توفيي في تفاؤله بشأن الشرق الأوسط كافة المحللين، وهو الأمر الذي يؤكد إضافة إلى ما سبق حالة الارتباك وعدم اليقين التي سببتها صدمة 2014 النفطية.
في مقال كتبه مؤخراً المحلل الجيوسياسي روبرت كابلان، يتساءل عما إذا كان انخفاض أسعار النفط يعني نهاية الشرق الأوسط، ويقول: “لعقود كان
الخليج الفارسي منطقة مصالح حيوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ومكاناً طالما اعتبر في غاية الأهمية للحفاظ على اقتصاد أمريكي معافى وقوي. ولكن، وبشكل متزايد، بات الخليج العربي لا يمثل سوى مصالح ثانوية للولايات المتحدة، حيث أصبح منطقة مهمة بالنسبة لحلقاء أمريكا، وبشكل أكثر تحديداً، للتجارة العالمية والنظام الاقتصادي العالمي بشكل عام، ولكن لم يعد ذا أهمية حيوية بالنسبة لأمريكا نفسها، وذلك بالرغم من الحرب التي تخوضها حالياً ضد الدولة الإسلامية. وأياً كانت كميات النفط التي ماتزال الولايات المتحدة الأمريكية تستوردها من الخليج الفارسي فإن أمريكا في واقع الأمر ستتوفر لديها بدائل طاقة أكثر محلياً وخارجياً خلال العقود القادمة.”
من المؤكد أن الانخفاض في أسعار النفط، كما تلاحظ إيمي مايرز، المدير التنفيذي لقسم الطاقة والاستدامة في جامعة كاليفورنيا، دافيز "سينجم عنه انتقال الثروة بعيداً عن الشرق الأوسط والعودة بها تارة أخرى إلى كبرى البلدان المستهلكة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.” إلا أن التنبؤ بنهاية الشرق الأوسط ومنظمة أوبيك يقوم على فرضية أن تكلفة إنتاج النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة ستبقى مستقرة، وهو الأمر الذي يستبعده العديد من خبراء الطاقة.
مؤخراً، كتب أليكسيس كراو، أحد مؤلفي "طفرة النفط الصخري في أمريكا عمرها أقصر مما تظن"، يقول: “بدلاً من أن تقود أمريكا نحو مستقبل تنعم فيه بالاستقلال في مجال الطاقة، لقد أدخلت طفرة النفط الصخري البلاد في لعبة باهظة التكاليف. ورغم تدفق النفط الصخري بغزارة في منطقة باكان شمال داكوتا وفي منطقة إيغل فورد في تكساس، ماتزال البلاد الأمريكية تعتمد على نفط الأوبيك للوفاء باحتياجاتها في قطاع النقل. والواقع هو أن استيراد النفط من السعودية إلى الولايات المتحدة ظل مستقراً عند نفس المستوى رغم طفرة النفط الصخري التي شهدتها أمريكا خلال السنوات القليلة الماضية.”
وحسب ما تقوله وكالة الطاقة الدولية: "يتطلب إنتاج مليون برميل يومياًفي شمال داكوتا ما يقرب من 2500 بئر في العام الواحد بينما يتطلب الإبقاء على نفس مستوى الإنتاج الحالي في العراق ما يقرب من 60 بئراً في العام. وهذا هو السبب في أن تكلفة إنتاج برميل واحد من النفط الصخري في حوض بكان في شمال داكوتا وفي مونتانا تصل إلى مائة دولار بينما لا تتجاوز تكلفة إنتاج نفس البرميل في حقل غوار السعودي 10 دولار.”
بوصفها أكبر منتجي أوبيك، يوجد لدى المملكة العربية السعودية، احتياطي نقدي يقدر بثمانمائة مليار دولار، وهذا كفيل بمساعدتها على تجاوز عواقب الانخفاض في الأسعار حتى لو استمر مدة طويلة. كما أن السعر المتدني من شأنه أن يخفف من الأعباء التي تتحملها الميزانية بسبب دعم أسعار المحروقات، كما أن الأسواق الآسيوية الصاعدة، كما يقول كراو، ستستمر في استهلاك كمية متزايدة من النفط الذي تنتجه دول الأوبيك. وقد كتب كراو في هذا يقول: “بينما يؤمل البعض نفسه متوهماً بقرب زوال المملكة العربية السعودية، إلا أن الرمال المتحركة التي تحيط بصناعة إنتاج النفط الصخري قد تبتلعها بأسرع مما يتوقعون. لقد آن الأوان للقيام بشكل جديد من الشراكة تقوم على الاستثمار في خلق الوظائف في القطاع الخاص في الشرق الأوسط - وهو الأمر الذي سيتجاوب مع احتياجات المجتمعات الفتية في هذه البلدان – بدلاً من الجري وراء سراب أمن الطاقة القائم فقط على مبيعات الأسلحة، والترويج للديمقراطية ونشر القوات العسكرية.”
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تبيع ما قيمته 5 مليار دولار من الأسلحة إلى بلدان الشرق الأوسط، وكذلك أن الولايات المتحدة ستظل معتمدة على أوبيك على الأقل فيما يقدر بعشرين بالمائة من احتياجاتها النفطية، فإن كراو يأمل في أن "الشكل الجديد من الشراكة" سيولد تفكيراً أجدى. وكلما تدنى احتياطي النفط في بلدان الشرق الأوسط – وهناك العديد من المحللين الذين يعتقدون بأن احتياطيات أوبيك قد تخطت ذروتها – كلما زاد نهم الولايات المتحدة، وهذا يعني زيادة لا مفر منها في التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط.
حسبما هو حاصل الآن، توجد لدى الولايات المتحدة الأمريكية 44 قاعدة عسكرية، بعضها بحكم مدن صغيرة، في منطقة الخليج العربي. واضح أن الولايات المتحدة تنوي البقاء هناك، وخاصة أن الطلب على نفط أوبيك لن يتراجع، وأنه فيما عدا إيران، توجد لدى دول أوبيك الأخرى احتياطيات تمكنها من ركوب العاصفة وتجاوز الأزمة. مؤخراً كتب إيان بريمر، رئيس مجموعة يوراسيا وأستاذ الأبحاث العالمية في جامعة نيويورك يقول: “قد تقرص أسعار النفط المنخفضة هذه الأنظمة، ولكنها لن تؤدي إلى أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة هيكلة علاقاتها مع الدول المناهضة لها في أي وقت قريب. إذا ما أريد للوضع الجيوسياسي أن ينقلب رأساً على عقب فإن الأمر يحتاج لأن تنخفض أسعار النفط إلى مستويات أدنى من ذلك بكثير أو على الأقل أن تبقى منخفضة لمدة طويلة. لا ينبغي التعويل كثيراً على الانخفاض الحالي في الأسعار.”
تعد الصدمة النفطية الحالية باللعب بأشكال مختلفة، وهذه هي المجاهيل المعلومة، والآن ننتظر لنا ما هي المجاهيل غير المعلومة.
*سي جيه ويرلمان كاتب في "سالون" و "أولتيرنيت" ومؤلف كتاب: “صلب أمريكا، والله
يبغضكم فابغضوه".