كتب سعيد الشهابي: الأفراد لا يستطيعون عادة تقرير مصير بلد أو أمة، وإن تمتع الواحد منهم بسمات قيادية متميزة، فلا بد من وجود جهاز سياسي وإداري متكامل يؤمن برؤاه وينفذ سياساته.
وتحتوي صفحات التاريخ نماذج لأفراد كان لشخصياتهم آثارها على مسار مجتمعاتهم، وقد يؤدي غيابهم عن المسرح السياسي لشيء من التغير في الأداء السياسي للنظام الذي شيدوه، ولكن يبقى ذلك النظام وفيا لـ «القائد البطل» أو «الزعيم التاريخي». ويصعب عادة إحداث تغيير من داخل النظام السياسي، أيا كان شكله، فالقوانين التي يعمل بها ذلك النظام لا تحمل في ثناياها أسباب سقوطها، بل تحتوي على صمامات أمان تحميها من محاولات التغيير، وإن كانت تتيح الفرصة لبعض التغييرات الهامشية من الداخل.
ويمكن القول إن من أسباب فشل أغلب الثورات العربية عدم اقتلاع الأنظمة السياسية التي ثارت الجماهير ضدها. فما أن اتضح حماس الجماهير للتغيير وإصرارها عليه بالتظاهرات والاحتجاجات غير المسبوقة في التاريخ المعاصر، حتى هرعت قوى الثورة المضادة لاتخاذ أهم إجراء معوق لانتصارها، وهو إزاحة رؤوس الأنظمة في
مصر وتونس واليمن مع الإبقاء على جسد النظام. هذا الإجراء لم يلق ارتياحا لدى بعض أنظمة المنطقة، التي رأت في التظاهر بالاستجابة لبعض مطالب الثوار سابقة خطيرة ستشجع الآخرين على الثورة ضد أنظمة الحكم في بلدانهم. وطرح بديل لذلك يتمثل بتشكيل مجموعات متطرفة مارست العنف غير المحدود في ليبيا وسوريا والعراق. والواضح أن الخطة الأمريكية أثبتت نجاحها بشكل أوضح. فقد بقيت الأنظمة التي تمت الإطاحة برؤسائها بينما تحولت البلدان الأخرى إلى ساحات للقتال العبثي الذي لم يفض إلى تحول ديمقراطي حقيقي. ويمكن القول إن العالم العربي لم يمر بمرحلة مضطربة على صعيد الأوضاع الداخلية لبلدانها كما هي عليه الآن، كما أن الغموض الذي يلف مستقبلها اصبح مقلقا جدا، وينذر بالدفع نحو المزيد من التطرف والعنف، بسبب حالة الإحباط التي تتعمق في النفوس يوما بعد آخر. وما لم تستيقظ النخب الفكرية والدينية من حالة التخدير التي فرضت عليها وفق أجندات خارجية، فستظل الشعوب مغلوبة على أمرها تنقاد للقوى ذات المال والسلاح.
ومهما كان الحديث عن أثر التغير في البلدان العربية على بعضها البعض، تبقى مصر هي المفتاح الأساسي للعالم العربي، فإن حدث فيها تغير ديمقراطي فسينتقل ذلك لبقية الدول العربية، وإن فشلت محاولات التغيير فيصعب تصور حدوث تغيرات ديمقراطية حقيقية في تلك الدول. الأمريكيون حاولوا إفشال ثورة شعب مصر بحصر التغيير برأس النظام، فأزيح حسني
مبارك قبل أقل من أربعة أعوام، وروج إعلام قوى الثورة المضادة رواية مخالفة للواقع، مفادها أن مصر تحولت نحو الديمقراطية. كان ذلك تخديرا فاعلا للجماهير، حتى الحركات السياسية المنظمة منها، كالإخوان المسلمين.
فسرعان ما هرع الجميع لتقاسم «الكعكة الديمقراطية» مع علمهم بأن نظام مبارك لم يسقط، وانه ما يزال مسيطرا على مفاصل القوة ابتداء بالجيش والأمن وصولا إلى الإعلام وبقية المؤسسات ذات التأثير الاجتماعي والسياسي. هرع الإخوان للمشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وما هي إلا فترة يسيرة لا تتجاوز العامين حتى عاد الإخوان إلى موقعهم الذي ألفوه منذ تأسيس جماعتهم، فاكتظت السجون بكوادرهم واحتوى ثرى مصر أجساد الآلاف من شهدائهم. تلك هي قصة «الثورة» في مصر التي حققت قوى الثورة المضادة اهم إنجاز بإفشالها تماما. وقد جاء القرار السياسي الذي اتخذه العسكر الأسبوع الماضي بتبرئة الرئيس المخلوع، حسني مبارك، من التهم التي وجهت إليه باعتباره مسؤولا عن إعطاء الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، ليطوي آخر فصول الثورة، ويعيد الوضع إلى أسوأ مما كان عليه قبلها. هذا ما كانت القوى التي دعمت الانقلاب ومولته تسعى لتحقيقه، بل إن بعض القوى المشاركة في ذلك الانقلاب العسكري اشترطت للمساهمة المالية السخية تبرئة مبارك وإعادة الاعتبار إليه. ومن المتوقع جدا ان يحدث الأمر نفسه في تونس، فيتم إعادة الاعتبار لزين العابدين بن علي الذي يعيش في السعودية والذي تسعى قوى الثورة المضادة لإعادة جماعته إلى الحكم، بانتخاب الباجي قائد السبسي وتعيين محمد الناصر متحدثا للبرلمان، لتكتمل بذلك مسرحية إبعاد حركة النهضة عن الحكم، وفق هندسة دقيقة للوضع التونسي.
حدثت في السابق اضطرابات سياسية في بعض الدول العربية، وتداول على الحكم أشخاص حكموا، ثم سجنوا، ثم حكموا ثم سجنوا، ولكن ما حدث في مصر مختلف تماما. ففي السودان مثلا كان الصادق المهدي رئيسا للوزراء في منتصف الستينات، حتى جاء النميري، واعتقل مرارا، واصبح رئيسا للوزراء في الثمانينات، وتكرر اعتقاله حتى العام الماضي. ولكن ذلك لم يحدث بسبب تدخلات خارجية، أو انقلابات ضد الإرادة الشعبية كما هو الحال في مصر. محمد مرسي كان سجينا قبل الثورة، وخرج من السجن خلالها ضمن هروب جماعي، ثم انتخب رئيسا، ولم يلبث أن انقلب عليه نظام مبارك الذي يديره العسكر، واعتقل مجددا، وحوكم بقضايا كيدية من بينها هروبه من السجن. اليوم يرزح مرسي في السجن وهو الذي لم يرتكب جريمة حقيقية يعاقب عليها القانون، بينما يطلق سراح مبارك الذي يعتبر المسؤول الأول عن إصدار أوامر اطلاق النار على المتظاهرين عام 2011. ثم يصدر العسكر الأسبوع الماضي قرارا بإعدام اكثر من 180 شخصا بتهمة المشاركة في قتل شرطة في حادثة كرداسة بعد الاعتداء العسكري على تجمع الإخوان المسلمين برابعة العدوية والنهضة. فليس هناك امتهان لكرامة الإنسان واستخفاف بالعقل البشري كما يحدث في البلدان التي تطالب شعوبها بالحرية.
ويعاني شعب البحرين، هو الآخر، من التشدد في فرض القوانين القمعية التي تتيح للسلطات إصدار أحكام الإعدام بحق عشرات الشباب بعد توجيه تهم مزيفة لهم انتزعت تحت التعذيب. وبرغم تظاهر الأمريكيين بالرغبة في تطوير أوضاع المنطقة، فقد أصبح واضحا أن الولايات المتحدة نفسها تعاني من أزمات داخلية لم تستطع أنظمتها حلها أو احتواء آثارها. وبعد مقتل مواطنين أمريكيين من السود مؤخرا على أيدي الشرطة، اضطر الرئيس الأمريكي نفسه للقول: "إنها مشكلة أمريكية. حين لا يعامل أي شخص في هذه البلاد بشكل متكافئ أمام القانون، فإنها مشكلة".
فما دامت أمريكا غير قادرة على إقامة حكم القانون بشكل عادل يعمق شعور المواطنين بالأمن واحترام الحق، فإن من غير المستغرب أن لا تكون متحمسة لإقامة أنظمة ديمقراطية عادلة في بقية البلدان. كما أن موقفها إزاء الاحتلال الإسرائيلي يمكن تفسيره بغياب قناعة الساسة الغربيين (خصوصا الأمريكيين والبريطانيين) بضرورة احترام العدالة أو اعتبار ذلك أمرا حاسما في العلاقات الدولية. وهذا يدعو للمزيد من التفكير وإعادة النظر في ما كان يعتبر من الثوابت لدى النخب المتأثرة بالتجربة الغربية، وأن أنظمتها الديمقراطية تمثل غاية ما يتطلع إليه الكائن البشري.
اليوم يصادف الذكرى السادسة والستين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي غياب إرادة دولية لتفعيل هذا الإعلان واعتباره مرجعية أساسية في العلاقات الدولية وواحدا من شروط النظام الديمقراطي المقبول، فإن الدول القمعية لا ترى رادعا عن مصادرة الحريات وتسليط القوانين الجائرة على النشطاء والمطالبين بالإصلاح والتغيير الديمقراطي. وتجدر الإشارة هنا إلى استحالة تغيير أي نظام من داخله، حتى اذا ادعى هذا النظام انه «ديمقراطي». فالفلسطينيون لن يستطيعوا يوما تحرير أرضهم أو استعادة حقوقهم من خلال القوانين الإسرائيلية التي طالما روج الغربيون بأنها نابعة عن «نظام ديمقراطي». والسياسات الغربية إزاء عالمنا العربي والإسلامي لا يمكن تغييرها من خلال القوانين المحلية في الدول الغربية، بل إن بعض هذه الدول يسعى لرفض حاكمية المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بدعوى أن ذلك يؤثر على أمنها القومي والتصدي لظاهرة
الإرهاب. ولا شك أن التصدي لذلك الإرهاب وظاهرة العنف امر مطلوب، ولكن تسليط القوانين البوليسية التي تختفي في شكل «ضوابط» و»لوائح» وراء القوانين المعلنة إنما هو التفاف على ذلك الإعلان.. ويرتكب خطأ كبيرا من يعمد لسجن إنسان لأي من تلك الأسباب. فاغلب دول العالم أقرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948. فالملاحظ أن اغلب القوانين التي شرعتها الأمم المتحدة تحولت، في غياب الحماس الغربي لترويج الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، إلى شعارات يحتفى بذكرى صدورها سنويا بدون أن يكون هناك إلزام بتطبيقها. وتعاني الشعوب العربية من ظاهرة تسلط الأنظمة القمعية المدعومة بشكل علني وثابت من «الأنظمة الديمقراطية» الغربية، الأمر الذي أدى إلى وأد ثورات الربيع العربي بدون حياء أو خجل. ولكن آثار ذلك لن تنحصر بالشرق الأوسط بل إن الدول الغربية نفسها بدأت تدفع فواتير ذلك التلكؤ.
(عن القدس العربي)