كتب
شيمس ميلن: كان لدينا معرفة لبضع سنين بوجود برنامج أمريكي للاختطاف والتعذيب، ومع ذلك فقد أصبنا بالغثيان ونحن نستمع إلى مقتطفات مختصرة مر عليها مقص الرقيب من تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي حول
التعذيب، بما تضمنته من وصف للوحشية التي مارستها السي آي إيه في التنكيل بأعداء أمريكا الموجودين حقيقة والمتوهمين.
تكاد تضمحل التقارير السابقة حول الممارسات الوحشية التي مارسها
جنود الولايات المتحدة الأمريكية في أبو غريب وغوانتانامو، أمام ما تضمنه التقرير – رغم تشجيبه – من سجل حافل بأقبح الممارسات، من استخدام القوة لحقن المعتقلين بالسوائل المغذية عبر الشرج بعد سحبه إلى الخارج، وسكب المياه على الوجه المقنع لخلق شعور بالغرق والهز العنيف مرات متتالية، والتسبب في وفاة رجل ألقي القبض عليه خطأ ترك في البرد حتى تجمد وهو في أصفاده، والضرب المبرح والتعليق من الرسغين، وإيهام المعتقلين بتنفيذ إعدامات بحق زملائهم، والحرمان من النوم لمدة تصل إلى 180 ساعة.
والحقيقة هي أن ما نشر حتى الآن لا يتجاوز جزءاً يسيراً جداً من الصورة الأكبر والأشمل، بما في ذلك ما يقرب من 100 معتقل أو أكثر لقوا حتفهم تحت التعذيب في مراكز الاعتقال الأمريكية. كل هذا لو أضيف إليه استشراء الكذب على نطاق واسع والتستر على الوقائع وحجب الحقائق، وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية في مأمن من المساءلة والعقاب، فإنه يروي قصة من شك في أن أبطال "الاستثنائية" الأمريكية سيجدون من العسير عليهم ترويجها عبر العالم. على كل حال لا يشذ ذلك عن سجل السي آي إيه الحافل بالانقلابات العسكرية وفرق الموت ومراكز التدريب، على ممارسة التعذيب والحروب السرية التي تعود إلى عدة عقود مضت، كان قد كشف النقاب عن بعضها تقرير صادر عن مجلس الشيوخ في سبعينيات القرن الماضي.
بالطبع لا يوجد شيء استثنائي بشأن الدول التي تعظ الآخرين حول حقوق الإنسان والديمقراطية، ولكنها في الواقع تمارس عكس ما تدعو إليه حسبما يتناسب ذلك معها. رغم الجهود التي بذلها مجلس الشيوخ لطمس أجزاء من التقرير مساعدة لحلفاء أمريكا، إلا أنه لا يخفى ضلوع بريطانيا حتى النخاع في الهمجية التي تمارسها السي آي إيه، وتورطها في عمليات خطف وتعذيب المشتبه بهم من باغرام إلى غوانتانامو، ناهيك عن ارتكابها العديد من الانتهاكات التي مارسها جنودها بشكل منفرد في كل من العراق وأفغانستان.
ما كان ليخطر ببالك بأن يتصادف هذا التذكير بالأهوال التي ارتكبت باسم الحرب على الإرهاب، مع إعلان بريطانيا إقامة أول قاعدة عسكرية دائمة لها في الشرق الأوسط منذ أربعة عقود. أو لم يكن وجود القوات الغربية وتقديم الدعم للأنظمة العربية الدكتاتورية هو السبب الأساسي وراء إعلان القاعدة للجهاد ضد الغرب؟
فكم من المرة تلو المرة كان الغزو والاحتلال وحملات القصف التي قامت بها الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، هي المبررات التي ساقها من نهضوا يقاومون هذه القوى الأجنبية في العالم العربي والإسلامي، أو انطلقوا يشنون الهجمات على الغرب. ومع ذلك، وقف وزير الخارجية فيليب هاموند الأسبوع الماضي ليعلن بكل فخر أن بريطانيا ستتراجع عن انسحابها من "شرق السويس" في أواخر الستينيات، وستفتح قاعدة بحرية للاستخدام "على المدى البعيد" في البحرين، هذه الدولة الخليجية ذات النظام الاستبدادي.
في الخطاب الرسمي يجري الحديث عن حماية "المصالح الدائمة" لبريطانيا والحفاظ على الاستقرار في المنطقة. أما بالنسبة لأولئك الذين يناضلون في سبيل حقهم في أن يديروا شؤون بلادهم، فالصورة لم تكن في يوم من الأيام أوضح مما هي عليه الآن. كل ما هنالك أن بريطانيا، القوة الاستعمارية السابقة، والولايات المتحدة الأمريكية التي تتخذ من البحرين قاعدة لأسطولها الخامس، تقفان وراء حكام الجزيرة غير المنتخبين. فلا عجب إذن أن تنطلق الاحتجاجات ضد إقامة القاعدة.
لقد كان البحرينيون الذين يناضلون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، في هذه الدولة التي معظم سكانها من الشيعة بينما حكامها من السنة، جزءاً من الانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011. حينها قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا بسحق الحركات الاحتجاجية بالقوة، وتلا ذلك اعتقالات جماعية وعمليات قمع وتعذيب.
تردت أوضاع حقوق الإنسان في البحرين بعد ثلاثة أعوام من بدء الربيع العربي، لدرجة أن حكومة الولايات المتحدة نفسها لم تملك سوى أن تعبر عن قلقها إزاء ذلك. أما الوزراء البريطانيون فلا يكفون عن الحديث عن "التقدم" الذي أنجزته مملكة البحرين في مجال "الإصلاح"، مشيدين بالانتخابات الصورية التي جرت لاختيار برلمان لا يتمتع بأي صلاحيات، رغم مقاطعة الأحزاب المعارضة الرئيسية لها. وفي الأسبوع الماضي صدر حكم بالسجن لثلاثة أعوام على الناشطة البحرينية زينب الخواجا عقوبة لها على تمزيق صورة الملك، مع العلم أن والدها، عبد الهادي، يمضي حالياً عقوبة بالسجن مدى الحياة بسبب تشجيعه الناس على التظاهر السلمي.
في الواقع، لن تقتصر مهمة القاعدة البريطانية على توفير الدعم للنظام البحريني، بل تتجاوز ذلك إلى حماية شبكة الحكومات الخليجية الدكتاتورية بأسرها، وهي التي تتربع على احتياطيات هائلة من النفط والغاز، وتشكيل نقطة انطلاق نحو تدخلات مستقبلية في أرجاء منطقة الشرق الأوسط. والحقيقة هي أن القوات البريطانية لم تغادر المنطقة يوماً، وكانت باستمرار جزءاً لا يتجزأ من تدخل عسكري يتلوه تدخل عسكري آخر.
تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على أرخبيل من القواعد العسكرية في أرجاء الخليج: في الكويت، وفي قطر، وفي عُمان، وفي الإمارات العربية المتحدة، وفي البحرين أيضاً. ورغم حديث باراك أوباما المستمر حول نقل بؤرة الاهتمام إلى آسيا، إلا أنه لم يعد خافٍ على أحد أنهم ينوون البقاء في الخليج إلى أن يشاء الله. فبعد أن قبلت الولايات المتحدة بإسقاط دكتاتور مصر حسني مبارك قبل ثلاثة أعوام، راح مستبدو الخليج يبحثون عن مزيد من الأمن، الذي يسعد بريطانيا وفرنسا أن تقوما بتقديمه. لقد بات الخليج اليوم، بالنسبة للنخبة اللندنية، سوقاً لمبيعات السلاح والخدمات المالية بقدر ما هو مصدر للنفط والغاز، وكذلك بؤرة لشبكة من العلاقات السياسية والتجارية والاستخباراتية تقع في الصميم من مؤسسة الحكم في بريطانيا.
في الوقت نفسه تسعى القوات العسكرية البريطانية إلى تعزيز وجودها في الإمارات العربية المتحدة وفي عُمان وفي قطر وفي الكويت. ومما يجدر ملاحظته هنا، أن هذه المستحدثات الاستعمارية تظل في قبضة العائلات الحاكمة، بينما يوضع التحول الديمقراطي على الرف. تلك هي الضمانة الوحيدة لاستمرار هذه العلاقة الأكالة – بالاعتماد على شعوب مهمشة وجيوش من العمالة المهاجرة المسخرة والمستغلة بأبشع الأشكال.
لو نظرنا إلى المنطقة بشمولية أكبر، فسنجد أن عودة الدكتاتورية المدعومة غربياً في مصر، البلد العربي الأهم على الإطلاق، هي التي ساعدت على استعادة الظروف التي قادت إلى الحرب على الإرهاب في المقام الأول. كل ما فعله أوباما هو أنه استبدل برنامج الاختطاف والتعذيب الذي نفذته السي آي إيه في عهد بوش، بعمليات خاصة موسعة وعمليات قتل تقوم بها السي آي إيه باستخدام طائرات من غير طيار، والأشخاص المستهدفون يتم اختيارهم في العادة لصفتين أساسيتين: الذكورة وبلوغ سن التجنيد. وبالمناسبة، اتهمت القوات البريطانية هذا الأسبوع بتقديم التدريب وتوفير المعلومات الاستخباراتية لفرق الموت الكينية، التي تستهدف بالتصفية والاغتيال المشتبه فيهم من النشطاء الإسلاميين.
ينبغي أن يكون واضحاً الآن أثر ذلك كله – الكشف عن أهوال التعذيب الذي تمارسه السي آي إيه، وتنامي القبضة العسكرية الغربية، وتلاشي فرص التحول الديمقراطي – على العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى ردود الفعل الاجتماعية المتوقعة في الأقطار الغربية مثل بريطانيا.
لم يعد لدينا أدنى شك أين باتت تقف الحكومة البريطانية بعد إعلانها الالتزام بنشر القوات في البحرين. لقد باتت تقف إلى جانب الاستبداد والمصالح المستدامة. كما أن رفض محاسبة الحكومات الأمريكية السابقة على ما اجترحته من إرهاب وتعذيب هو الذي مهد الطريق. أما ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر، فإن فشل البرلمان حتى في مجرد إجراء نقاش حول القرار بعسكرة الخليج، ينذر بالشرور وعظائم الأمور. لا تخدم القاعدة البريطانية الجديدة لا مصالح الشعب في بريطانيا ولا مصالح الشعب في البحرين أو الشرق الأوسط ككل، بل تشكل خطراً علينا وتمثل إهانة موجهة إلينا جميعاً.
(صحيفة ذي غارديان)