ونحن على أعتاب الذكرى الرابعة لصرخة المصريين التي سمعها العالم بإنهاء تسلط الدولة على المواطن ليعيش في حرية وكرامة وعدالة؛ آن للجميع أن يقفوا أمام خطاياهم. فما كان لمصر أن تنحط إلى هذا المآل لولا أن الكل وقع في الخطيئة.
فقد بات بلد التسعين المليون يصنع قراره طوال العمر في الخليج، ويغني لهم طوال الألسن في مدينة الإنتاج الإعلامي وينحني لهم طوال اليد قصار القامة في مؤسسات أقدم دولة في التاريخ.
وفي هذا المقال أحاول أن أضع كل طرف أمام خطيئته، عسى إن جاءت سانحة أخرى ألا نقع في نفس الخطايا.
أولا: الجيش وخطيئة الهيمنة
تعامل قادة الجيش مع الثورة بمنطق لو "لو كنا هانسيبها كنا سبناها لابن مبارك". لا شك أن الثورة هزت المؤسسة العسكرية كغيرها من المؤسسات في الدولة وكان عنصر قوتها هو عدم القدرة على التنبؤ بمدى قوتها. ولعب الجيش دور حامي الثورة وهو يدرس ليل نهار عناصر قوتها وضعفها ويلعب على متناقضاتها، فتأبط الإخوان تارة والقوى العلمانية تارة أخرى حتى تمكن بمشهد 30 يونيو من عزل الإخوان سياسيا وشعبيا؛ وإحياء فلول مبارك وإعادتهم للمشهد السياسي وسط ترحيب أو صمت من قوى ثورية وسياسية وشبابية.
ثم ما لبث أن عزل القوى الثورية التي أيدت انقلابه في 3 يوليو، بل وضع رموزها في السجن إلى جوار الإخوان. وإلى هنا وتبدو اللعبة محكمة ومتقنة وناجحة. فقائد الانقلاب في الاتحادية؛ وقوى يناير بمن فيهم الإخوان في السجن. لكن الخطيئة الكبرى التي وقع فيها الجيش والمؤسسات التي تلعب لعبته أنه فقد رصيده لدى القطاع الحي في المجتمع القادر على إشعال الثورة ضده في أي وقت.
الاعتماد على حزب الكنبة خطيئة سياسية لأنه قطاع يتأثر ولا يؤثر. معك اليوم وضدك غدا. فقد صوت للإخوان ثم صفق لقتلهم وسجنهم. وكان يصفق لمبارك ثم أيد الثورة عليه. ولذلك، فإن "المتغطي بحزب الكنبة عريان" لا سيما في أجواء اضطراب وثورة. وحين تقع الواقعة فإن اللحم الذي ستنهشه الثورة القادمة هو كل الامتدادات الزائدة للجيش في الحياة السياسية والاقتصادية إن لم يكن الجيش نفسه. لقد كان الأسلم لمصر ولجيشها أن يعمل العسكريون على انتقال سلس للديمقراطية يحفظ الجيش والوطن معا.
ثانيا: الصف الثوري وخطيئة البراءة الثورية
شاهد الثوار الجيش وهو يمد الشرطة بالسلاح والذخائر لقتلهم ثم فرحوا ببيان الحادي عشر من فبراير الذي يكلف تسعة عشر لواء بإدارة شئون البلاد. انفض المولد وكأن مبارك هو وحده الذي أفسد البلاد 30 عاما وليس بمساعدة الجيش الذي لم يقل لمبارك "لا" واحدة طيلة ثلاثة عقود حتى حين لاحت الفرصة في تمرد أمن المركزي عام 86. وكان الأخوان الذين حكم عليهم بخمسة عشر ألف سنة سجنا من محاكم الجيش في عهد مبارك من أوائل من صدقوا قادة المؤسسة العسكرية. ولم يكن الباقون بأحسن حالا فقد جلسوا هم أيضا مع قادة الجيش وأبرزهم السيسي مدير المخابرات الحربية.
لكن ما سهل اللعب على متناقضات الصف الثوري غياب هيئة جامعة تتحدث باسم الثورة قي الثمانية عشر يوما. وثورة بلا رأس هي ثورة ضائعة. ما حفظ الثورة التونسية هو الاتحاد التونسي العام للشغل وما حفظ الثورة الإيرانية هو الخميني ومن خلفه الحوزة الدينية التي ضاقت بالشاه وعلمانيته وحتى الثورة الفرنسية كان تتحدث باسمها جمعية ممثلي الشعب، بل أن الماجنا كارتا التي تعد أول وثيقة حقوق في العالم الغربي كانت نتاج تفاوض بين النبلاء والملك في إنجلترا.
كان بالإمكان تشكيل كيان يتحدث باسم الثورة في الثمانية عشر يوما وكان بوسع شخصية كالبرادعي أن ينجز ذلك لكنه يفتقر لمقومات الزعامات النضالية التي تقود البلاد في مراحل التحول كـ"ليخ فاليسا" البولندي.
ثالثا: الإخوان وخطيئة إضاعة الفرص
الإخوان هم أكبر قوة سياسية منظمة في مصر، وكانت هذه فرصة للثورة، حيث مثل التحاق الإخوان بالثورة رسميا بجمعة الغضب في 28 يناير نقطة قوة لإنجاحها. كثيرون يعتبرون الإخوان انتهازيين وأن هذه هي خطيئتهم الكبرى.
ويدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك بارتماء الإخوان مبكرا في أحضان العسكر وركونهم إليهم حتى وقع الانقلاب على حكمهم وعلى الثورة وقيمها وأحلامها، وقد يكون هذا صحيحا وأن كنت لا أعتبر الانتهازية خطيئة سياسية في حد ذاتها طالما أن هناك لعبة سياسية متفقا على قواعدها.
كما أني لا أظن أن الإخوان كانوا انتهازيين بالدرجة التي تروج عنهم، وإلا ماذا نسمي حزب النور والوفد والتجمع والمصريين الأحرار والجبهة الديموقراطية والاجتماعي الديموقراطي والدستور التي ارتمت في أحضان العسكر وشكلت من بعضها أول إدارة بعد الانقلاب؟
خطيئة الإخوان الكبرى أن الثورة لم تدخل إليهم كما دخلوا فيها. لم يقدم الإخوان للشعب المصري ولنخبه المتشككة نموذجا للتغيير المنشود في المجتمع. فقد بقيت الجماعة على حالها وكأن ثورة لم تقم.
كنت وغيري نتوقع أن يجري الإخوان انتخابات داخلية نزيهة وشفافة كانتخابات الأحزاب الكبرى في أمريكا والغرب تمكن الشباب الذين ضاقت بهم دهاليز الجماعة وهم عماد بنائها التنظيمي وعماد ثورة يناير. لكنها لم تفعل فهجرها عدد لا بأس به من شبابها الناضج سياسيا ومن صفها الأوسط والأعلى تماما كما حدث إبان أزمة حزب الوسط في التسعينيات. كانت هذه أكبر فرصة للتغيير والتثوير أضاعها الإخوان. تلتها فرص أخرى وهم في البرلمان ثم وهم في الرئاسة، لكنها كلها تنبع من فوات الفرصة الأولى وهي الفرصة الأكبر.
رابعا: الإعلام وخطيئة التبعية
حين تأسست BBC عام 1922 بدأت كشركة تجارية، ثم ولدت كمؤسسة إعلام عمومي بتمويل مباشر من الشعب في عام 1927، بعد أزمة عمالية وقفت فيها المؤسسة موقفا محايدا بين الحكومة والعمال المضربين عن العمل.
كان ذلك قرارا فرديا من جون ريث أول مدير عام للبي بي سي رغم أنه كان شخصيا ضد الإضراب ويؤيد الحكومة، بل إن رسالة رئيس الحكومة سجلت من بيت السيد ريث الذي حصل بعد ذلك على لقب سير.
لم تكن الظروف التي نشأت فيها البي بي سي كإعلام للشعب وليس للدولة أو للحكومة بأحسن من حالنا اليوم. كانت الحكومة لا تريدها إلا بوقا لها، بل منعتها من إذاعة أي نشرة أخبار حتى السابعة مساء، كما أوقفت بثها التلفزيوني تماما طيلة الحرب العالمية الثانية ولم يستأنف إلا في عام 1946.
وما كانت رسائل ريتشارد ديمبلبي عن أهوال الحرب إلا بثا إذاعيا صادقا وبديعا ليعوض الصورة المفقودة بقرار سياسي. عنت بعد الثورة فرصة حقيقية لإطلاق إعلام يعبر عن المواطن لا الحكومة، لكن لم تكن طبقتنا الإعلامية ونخبتنا قادرة على إنتاج واحد كالسيد جون ريث.
وانشغلت نخبتنا السياسية والثورية بالظهور على فضائيات أعداء الثورة ومعارك وهمية حول الهوية. كنت أتمنى بعد الثورة أن يصدر قانون للإعلام يفصل رأس المال عن القرار التحريري في كل المؤسسات، وينشئ هيئة إعلامية بتمويل مباشر إجباري من الشعب كهيئة الإذاعة البريطانية التي تحصل على حوالي ألف جنيه مصري من كل منزل يقتني تلفازا. ميزانية البي بي سي اليوم تربو على الخمسين مليار جنيه مصري سنويا كلها من المواطن البريطاني. كان الحلم ممكنا ولا زال.
خامسا: حزب الكنبة وخطيئة الاستقرار
ما يدهشك في حزب الاستقرار أن غالبية أعضائه من الذين لم يجنوا شيئا من الاستقرار سوى الفقر والجهل والمرض؛ مقرونين بامتهان للكرامة كلما ساقه القدر إلى مخفر أو مصلحة حكومية.
ألم تروا أن استقرار الثلاثين عاما الماضية قد أكل أكبادكم والكلى وأصابكم بأمراض انقرضت في العالم من حولكم ولم يترك لأولادكم إلا البلطجة والمخدرات ومقاهي قتل الوقت وإهدار العمر؟
لاحت لأعضاء هذا الحزب لأول مرة فرصة ليختاروا ممثليهم ويغيروا أوطانهم، فجلسوا منتظرين من سينتصر الثورة أم النظام. ولما انتصر النظام نزلوا يرقصون أمام اللجان على تسلم الأيادي وبشرة خير.
لا يعلمون أن انتصار النظام ليس انتصارا لهم، وأن خلاصهم الحقيقي كان في نجاح ثورة يناير التي ما قامت إلا لتعبر عن أوجاعهم المكتومة.