صاعقة ضربت فرنسا بالهجوم الوحشي على مجلة «
شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي في حي فانسين في باريس. إرهابيون شباب من أصول مهاجرة يدّعون الإسلام -الشقيقان كواشي وزميلهم في
الإرهاب أحمدي كوليبالي- ارتكبوا جرائم شنيعة فقتلوا كبار الرسامين الصحافيين في «شارلي إيبدو» والشرطي أحمد مرابط والمواطنين الفرنسيين اليهود في المتجر.
ردة الفعل الشعبية والسياسية الفرنسية كانت رائعة، وتميز في إدارة الأحداث وزير الداخلية برنار كازنوف، الذي تكلم باستمرار برصانة وهدوء وشفافية، على رغم العبء الذي تحمله نتيجة تعرض رجال الأمن المسؤولين عن حماية المواطنين للإرهاب الأعمى. ولا شك في أن الشرطة الفرنسية، وأيضاً القوى العسكرية أظهرتا قدرة وبراعة يجب الثناء عليها. ولكن ماذا بعد هذه الصاعقة؟ هل أن مسلمي فرنسا قلقون ومتخوفون من المزيد من العنصرية إزاءهم؟ هذا أمر غير مشكوك فيه، خصوصاً مع تصاعد تأثير «الجبهة الوطنية» في المجتمع الفرنسي. ولكن الحزب الاشتراكي الفرنسي ارتكب خطأ كبيراً في عدم دعوة حزب مارين لوبن (الجبهة الوطنية) إلى المشاركة في المسيرة، فلوبن تمثل حزباً له وجود في فرنسا وكانت ردة فعلها الأولى على الجرائم كأي مسؤول فرنسي آخر، عندما قالت إن في فرنسا 6 ملايين مواطن مسلم، وإن هؤلاء فرنسيون ولا علاقة لهم بالإجرام الذي ارتكبه الشبان الثلاثة باسم الإسلام. فكان خطابها بعيداً من العنصرية التي تميز حزبها تقليدياً، ومنعها من المشاركة في هذه المسيرة قد يعزز صعود هذا الحزب، وربما بدأ الحزب الاشتراكي يقوم بحسابات انتخابية لعام 2017 لتقوية «الجبهة الوطنية» ليصبح منافسها على الرئاسة.
الآن كيف ستكون اليقظة الفرنسية بعد الصاعقة؟ تشديد الإجراءات الأمنية وتحسين أداء الاستخبارات وملاحقة الشبكات الجهادية كلها أمور يسرع المسؤولون في تنفيذها، لكنها ليست وحدها الحل، فالمسلمون في فرنسا مواطنون فرنسيون. معظمهم ولدوا ونشأوا في فرنسا، ومنهم من لا يتقن العربية ولا يمكن تمييز لهجتهم عندما يتكلمون بالفرنسية، فهم يمثلون طبقة وسطى فرنسية مندمجة لا علاقة لها بأمثال كواشي أو كوليبالي، فالإرهابيون الذين ارتكبوا الجرائم في «شارلي إيبدو» وفي المتجر اليهودي، هم من شباب
الضواحي الجانحين، الذين نشأوا في بيئة البطالة والفقر واعتادوا العيش على السرقات والجرائم الصغرى، ثم دخلوا السجون الفرنسية وتم تجنيدهم فيها من شبكات إرهابية خارجية تدّعي الإسلام وتجند الشباب والشابات الضائعين لارتكاب أعمال إجرامية باسم الإسلام. فالطبقة السياسية في فرنسا منذ عقود، وفي عهد الرؤساء الذين تعاقبوا، فشلت في سياستها لمعالجة المشكلة الاجتماعية التي تفاقمت في الضواحي. وهناك نسبة ضئيلة من سكان الضواحي تلجأ إلى الإجرام والسرقات والعنف لأنه لم يتم احتضانها في بيئة تمنحها العلم وفرص العمل كبقية الفرنسيين، لذا يتحول هؤلاء إلى أرض خصبة للتجنيد المجرم. ومن الطبيعي أن يخلق ذلك جواً من العنصرية إزاءهم، من الذين يخلطون بين المجرمين والمهاجرين من أصول عربية ومسلمة.
لقد أخفق السياسيون في فرنسا في عملية دمج المهاجرين، فلا نجد مثلاً في المجلس النيابي الفرنسي نائباً من أصل عربي يركز عمله على تحسين أوضاع الضواحي، فالاندماج السياسي فشل في فرنسا، علماً أن كل رئيس فرنسي أدخل اسم شخصية عربية في حكومته، من شيراك إلى ساركوزي إلى هولاند، ولكن لم يكن لهم فعلاً صفة تمثيلية لهذه الضواحي، حيث السياسة الفرنسية من اليمين إلى اليسار فشلت في إدارتها وتفاقم ذلك مع الأزمة الاقتصادية في فرنسا. والأمر الآخر الذي نتج عن هذه الأزمة الاقتصادية وإهمال الضواحي، أن السجون الفرنسية تعج بالمجرمين والمعتقلين ويتم وضع عدد كبير من السجناء في زنزانة واحدة، ما يسهل تجنيدهم.
على المواطنين المسلمين، وهم جزء أساسي من الطبقة الوسطى في فرنسا، أن يُسمعوا أصواتهم، وألا يُترك ذلك لإمام جامع باريس وهو منصب جزائري فرنسي، أو لمجلس وطني إسلامي تابع للمغرب، أو أي إمام تابع لدولة أخرى. فليترك مسؤولو العالم الإسلامي الإسلام الفرنسي لينظم نفسه من دون التدخل فيه، وليتركوا المواطن الفرنسي العادي ليعيش بشكل عادي في بلد ديموقراطي يحترم الحريات وكل الأديان الأخرى. إن هذه أيضاً مسؤولية الدول الإسلامية، لأن قيم الحرية والأخوة والمساواة في فرنسا هي أثمن ما لدى المواطن الفرنسي لحمايته، وهذا ما رأيناه في مسيرة الشعب الفرنسي في 11 الشهر الجاري.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)