منذ أكثر من سنة أصبحت التوقعات بتراجع أسعار النفط سائدة وبديهية. والأهم انه بعكس ما كان يحصل في الماضي المتغير، الأساسي الآن ليس ظرفياً بل هيكلياً؛ إذ إنه لأول مرة منذ عقود عديدة سيصبح الإنتاج الأكبر للنفط والغاز معاً خارج دول الأوبك. في جوهر هذه الوضعية الجديدة "ثورة الغاز الصغرى" في الولايات المتحدة. بين سنتي 2007 و2012 زاد إنتاج الغاز الصخري هناك سنوياً بنسبة 50%، وبذلك ارتفعت نسبة الغاز الصخري من نسبة إنتاج الغاز من 5% إلى 39%. "التكسير المائي" الذي يترافق مع إنتاج الغاز الصخري يسمح أيضاً بإنتاج نوعية رفيعة من النفط، وهو ما أثر على إنتاج الولايات المتحدة في البترول، ليرتفع بنسبة 50% من سنة 2008 إلى سنة 2013.
كل ذلك جعل الولايات المتحدة تتهيأ لأن تكون سنة 2015 (وفق توقعات الوكالة الدولية للطاقة) القوى العظمى في الطاقة، لتتفوق بذلك على العربية السعودية كأكبر منتج للبترول وروسيا كأكبر منتج للطاقة. خريطة الطاقة في العالم بصدد التغير ولا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة فقط. أستراليا مثلاً سيفوق إنتاجها في الغاز قريباً قطر. والولايات المتحدة وكندا معاً يمكن أن يصدرا بحلول سنة 2020 غازاً يعادل الإنتاج القطري.
النسبة الإنتاجية الكبيرة المضافة من الولايات المتحدة تعني بالضرورة تحدياً أساسياً لمنطق ساد سوق الطاقة بما في ذلك النفط؛ إذ كانت دول الأوبك لفترة طويلة قادرة على التحكم في عملية تعديل أسعار النفط من خلال التحكم في الإنتاج، زيادته تعني تخفيضاً في الأسعار والحد منه تعني زيادة في الأسعار. وهكذا استطاعت هذه الدول منذ خمس سنوات الحفاظ على وضع إنتاجي يسمح ببقاء سعر البرميل بين 90 و110 دولارات.
ما من شك هنا أن دول الأوبك ستتأثر عموماً بالوضع الجديد. قدرتها على المدى الطويل على ضمان نسبة كبيرة من الاحتياطي النقدي بسبب طفرة الأسعار ستتقلص بشكل كبير وستؤثر عملياً على قدرتها على التصرف بشكل مرن. العربية السعودية على سبيل المثال تفاعلت مع "
الربيع العربي" من خلال الزيادة بشكل كبير في الإنفاق العمومي لمنع أي إمكانية لـ"عدوى" سياسية داخلها. وهكذا أصبحت الاحتياجات الضريبية في السعودية عموماً تتطلب سعر برميل يصل إلى 90 دولاراً لضمان ميزانية متوازنة حسب أرقام صندوق النقد الدولي. في المقابل يبدو وضع دول مثل روسيا وإيران أسوأ بكثير حيث لم تستطع الادخار بشكل جيد من طفرة الأسعار.
هذا الوضع الجديد في الطاقة ستكون له استتباعات مباشرة وقوية على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة العربية. الدول الأكثر تضرراً هي بالضرورة الدول التي لم تكن مرتاحة لـ"
الثورات العربية" بل بعضها ساهم في تعطيل المسارات الديمقراطية من خلال دعم القوى التي جرت إلى الوراء. روسيا وإيران ودورهما في تخريب الوضع في سوريا والمساهمة في إيصاله إلى استقطاب بين استبدادين، واحد بقيادة نظام بشار الأسد والآخر بقيادة الجماعات التكفيرية الداعشية، وبعض دول الخليج ومنها السعودية التي دفعت بقوة في اتجاه ضرب المسار الديمقراطي في مصر، من خلال حالة العداء مع تنظيم الإخوان المسلمين.
ليس من الواضح العلاقة المباشرة بين الوضع الطاقي المتحول والسياسات السعودية على سبيل الذكر لا الحصر، لكن من الواضح ،ن هناك سياسة خارجية جديدة بصدد الطبخ في الرياض، ويبدو أن صعود الملك سلمان سرع في التحول نحوها، وهي سياسة قائمة على استيعاب المتغيرات السياسية العميقة، والاقتراب من دولة غير نفطية وصاعدة في المنطقة تجاوبت مع هذه المتغيرات، وهنا نعني أساساً تركيا. هناك مؤشرات عديدة على التغير في السياسة السعودية منها التغييرات في طاقم الحكم هناك وأبعاد شخصيات رمزية لسياسة دعم العودة إلى أنظمة ما قبل الثورة.
هناك أيضاً مقال لشخصية مقربة جداً من الحكم في السعودية صرحت علناً بهذا الاتجاه الجديد؛ إذ نشر الكاتب جمال الخاشقجي (وهو الآن مدير قناة جديدة للأمير وليد بن طلال) مقالاً ملفتاً منذ أسبوع تضمن بالحرف ما يلي:
"حتى مصر، فإن أوضاعها لا تبشر بخير، وأدت حماية نظامها من النقد والمحاسبة إلى أن يتوغل على الحريات، وبات سقوط قتلى مصريين كل يوم في شوارع القاهرة وبقية المدن من أجل حماية النظام خبراً عادياً، ما عمّق الانقسام والاستقطاب، وجعل المصالحة الوطنية المنشودة أصعب وأبعد، وليس هذا بالتأكيد ما تريده السعودية والولايات المتحدة لمستقبل هذا البلد المهم. لا يوجد حل سحري لأي من هذه القضايا، بل علينا أن نتوقع الأسوأ وأنها ستبقى معنا بكل تعقيداتها وآلامها لعقود عدة. نحتاج إلى سياسة احتوائية لا إقصائية، وإعلاء قيم حقوق الإنسان وتشجيع على المشاركة. منع السلاح عن الجميع سيكون فكرة جيدة، وأخيراً غرفة عمليات مشتركة سعودية - أمريكية - تركية، وظيفتها إطفاء الحرائق والمصالحة وكل ما سبق."
هناك دولة أخرى تستحق الاهتمام في هذا الموضوع. خاصة بالنسبة لمنطقتنا المغاربية. الوضع في الجزائر بصدد التغير حيث أعلنت الحكومة على "عشرة إجراءات" للاقتصاد في التصرف المالي وهو ما أدى إلى حالة غليان واحتجاجات. من الواضح أن ذلك يتعلق بالتغيرات في أسعار النفط والغاز، إذ إن الصادرات الجزائرية في هذا القطاع تصل إلى 98% من مجمل الصادرات، و58% من مجمل المداخيل الضريبية. وفي الوقت الذي وصلت فيها أسعار البرميل إلى 50 دولاراً، فإن ميزانية الدولة تحتاجها أن تصل إلى 120 دولاراً حتى لا تصبح في حالة عجز. في المقابل، الحكومة الجزائرية التي تعاملت بمرونة مع الأوضاع الجديدة، إذ لم تحاول أن تتصرف بشكل عدائي واضح مع الوضع في تونس مثلاً، بقيت حذرة جداً من "الربيع العربي"، حيث وصفه رئيس الحكومة بحشرة وجدت الجزائر مبيداً لها.
عموماً فإن متغيرات أسعار النفط والغاز الجديدة متغيرات هيكلية ستغير خريطة الطاقة في العالم، وستجعل القوى الأكثر تأثيراً في هذا المجال، ليس الدول الريعية بل دول رأسمالية ذات قدرة كبيرة على إنتاج القيمة المضافة. وعلى المدى القصير وليس المتوسط والطويل فقط سيكون لذلك أثر جوهري على الوضع الجيوسياسي في منطقتنا. إذ تراجع بعض الدول المنتجة للنفط فيها سيعني بالضرورة تراجعاً لتأثيرها السياسي، وهو تأثير يتجه الآن بشكل أساسي لأن يكون معادياً لمسار "الثورات" العربية. "ثورات" الطاقة الراهنة ستسمح أكثر بتحرير "ثورات" السياسة.