بعد 12 عاماً من الحكم في
تركيا، بدت لحظة ترشح
أردوغان للرئاسة - بما يعني تخليه عن رئاسة الحكومة والحزب - لحظة فارقة ربما كانت دون كثير مبالغة الأصعب على العدالة والتنمية منذ تأسيسه. في ذلك الوقت، ارتفعت أصوات كثيرة داخل الحزب وخارجه تدعو إلى تغيير مادة "المدد الثلاث" في النظام الأساسي للحزب - ولو استثناءً لأجل أردوغان - بما يسمح له بالاستمرار في قيادته.
لم تكن هذه الحالة والغة في التضخيم، بل كان لها ما يبررها من سياقات ومسوغات كثيرة، على رأسها ما امتلكه الرجل ومثله من قيادة تاريخية وزعامة كاريزمية وشرعية وإنجازات ومهارات، لكن أيضاً لا يقل عن كل ذلك أهمية طريقة قيادته شديدة المركزية، التي أوحت بإشكالية قيادة واستمرار في الحزب الحاكم من بعده، لاسيما في ظل تجارب تركية سابقة لأحزاب انقرضت أو كادت بعد غياب قيادييها. لقد كان أردوغان قائداً استثنائياً لمرحلة استثنائية، وبرع في كثير من المجالات مسجلاً أفضل الإنجازات لحزبه وبلده، اللهم إلا صناعة القيادات وترميز الكفاءات من بعده.
في تلك اللحظة بدا أحمد داود أوغلو الإجابة الأفضل على سؤالين مهمين، سؤال القيادة القوية القادرة على جمع التيارات المختلفة داخل العدالة والتنمية بعد أردوغان، بما يحفظ الحزب ويحميه من خطر التشتت، وسؤال المنهج المتوافق مع تجربة العدالة والتنمية وخط أردوغان لاستمرار المسيرة، فوقع عليه الاختيار. لكن السؤال الثالث الذي بقي دون إجابة كان حول طريقة قيادة داود أوغلو، وهل سيكون مجرد ظل لأردوغان الذي سيدير الأمور من الخلف، أم سيكون قائداً متمايزاً عن سلفه رغم الاتفاق في الخطوط العريضة؟
لم يكن من المرجح لمفكر ومنظر وأستاذ علوم سياسية أراد لسنوات طويلة أن يكون بعيداً عن الحياة السياسية والحزبية للتفرغ للعمل الأكاديمي أن يكون دمية بيد أردوغان، لكن أيضاً كان من الصعب تخيل سير الأمور واتخاذ القرارات الكبيرة في الحزب بعيداً عن رغبة أو على الأقل موافقة "القائد" أردوغان. ودعّم هذه الرؤية عدم انزعاج الأول - على الأقل ظاهرياً - من ترؤس الثاني للمجلس الوزاري، أو من تصريحاته المتكررة في مختلف المواضيع، أو من زياراته الداخلية والخارجية التي سارت ضمن إطار وعده السابق بأنه لن يكون رئيساً تقليدياً، بل رئيساً "يكدُّ ويجري ويعرق".
مؤخراً، بدا قرار استقالة رئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان فرصة لطرح التساؤل من جديد، لاسيما مع تصريح أردوغان غير المتوقع أنه لم يكن يؤيد هذه الاستقالة، وأبدى رأيه واضحاً لدى استشارة رئيس الوزراء له. ولئن كان الوقت باكراً لحديث عن خلافات كبيرة بين الرجلين وكانت المعطيات بعيدة عن تأييد نظرية المناورة السياسية المتفق عليها بينهما، فإننا أمام مشهد مختلف لم تعهده تركيا العدالة والتنمية من قبل، بأن يُستشار أردوغان مجرد استشارة ثم يُتخذ القرار على عكس رغبته، وهو المعروف بقبضته الحديدية في إدارة الحزب والحكومة على مدى 12 عاماً.
هنا، نستطيع أن نتحدث عن داود أوغلو كرئيس وزراء حاول واستطاع إثبات نفسه أبعد من مجرد المرحلة الانتقالية حتى الانتخابات القادمة، وأمكنه وضع مسافة واضحة بين التوافق مع الرئيس والتبعية له، حيث يملك رؤيته الخاصة المتمايزة عن سلفه فيما خص الطريقة والنهج والأسلوب وربما الخطاب والأولويات، وإن لم تكن مختلفة بالضرورة من حيث العناوين العريضة والمقولات الكبرى.
فإضافة إلى فيدان الذي يُتوقع أن يقود وزارة الخارجية (كان مستشاراً لداود أوغلو فيها، إضافة لعمله في إحدى السفارات ووكالة التنمية التابعة للوزارة)، يبدو أن داود أوغلو يجهز "فريقه" ليكون ضمن حكومة المرحلة المقبلة. يلفت النظر في هذا الإطار استقالة عدد كبير من مديري الوزارات العامين وموظفيها الكبار للترشح للبرلمان (يشترط القانون التركي ذلك)، على رأسهم أهم خمسة من كبار مستشاريه - يسمون "فريق داود أوغلو الممتاز"- وطبيبه الخاص.
من ناحية أخرى سيستفيد الرجل بكل تأكيد من فقرة "المدد الثلاث" في نظام الحزب الأساسي التي ستمنع كبار قيادات الحزب من الترشح للنيابة ثم الوزارة، ليحكم سيطرته ويطبق رؤيته في الحزب والحكومة والكتلة البرلمانية بعيداً عن وصاية "الحرس القديم". فالملحوظة الجديرة بالانتباه في هذا السياق، هو أن العدالة والتنمية سيخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة تحت قيادة داود أوغلو دون الصف الأول من قياداته المؤسِّسة، وهو تحد صعب قد يعني الأزمة كما قد يعني - بالنسبة نفسها - الفرصة الذهبية لتجديد الدماء وإثراء التجربة.
أخيراً، ليس واضحاً بعد ما إذا كانت هذه الإشارات كلها إرهاصات "تمايز" فقط أم "اختلاف"، أو ربما "خلاف"، لكنها على الأقل تنفي التقليد والجمود الذي كان سيهدد أصل التجربة التركية الحديثة وآفاقها المستقبلية، ولا يمكننا إلا أن نرى فيها بذوراً مبدئية للتجديد والإبداع والتطوير، وسيكون علينا أن ننتظر لنرى أي السيناريوهات هو الأقرب للتحقق ما بعد الانتخابات البرلمانية في شهر حزيران/يونيو المقبل.