يعرف عن غالب أهل
السودان ولعهم بتناول الشاي، لكن قسما كبيرا من قبائله لا يقفون عند حد الولع بل إنهم يقدسون هذا
المشروب، وهم يقيمون منذ مئات السنين
مجالس لشربه بطقوس فريدة تعرف بـ"مجالس البرامكة".
و"مجالس البرامكة" سمة من سمات قبائل "البقارة" الرعوية بإقليم دارفور غرب البلاد التي تعقد جلسات خصيصا لتناول الشاي في أجواء احتفائية، مصحوبة بالغناء والتباري بالأشعار التي يمجد غالبها الشاي.
وتتسم هذه المجالس بتقاليد وقوانيين صارمة القاسم المشترك بينها هو تمجيد الشاي، ولا يحق لأي عضو من أعضاء المجلس تجاوزها بأي حال من الأحوال. وفي حال فعل يحاكم وفقا لنظام قضائي شعبي تصل عقوباته إلى حد نبذ المجتمع له.
ولـ"
مجلس البرامكة" هيكل إداري يحدد وظيفة أي من أعضاء المجلس، ابتداء بهوية من يشعل النار لغلي الشاي ومن يصبه ومن يوزعه ومن يراقب مخالفات الأعضاء لتقاليد وقوانين المجلس في حال حدوثها ومن يحكم في هذه المخالفات.
ويحق لأي شخص الانضمام لـ"مجلس البرامكة" رجلا كان أو إمرأة صغيرا في السن أو كبيرا، فقط عليه الالتزام بقوانين المجلس ومن بينها ارتداء زي موحد.
فالرجال عليهم ارتداء الجلباب الأبيض. وعلى النساء ارتداء "التوب"، وهو عبارة عن قطعة قماشية تلف بها المرأة جسدها من رأسها وحتى أسفل قدميها ولا يظهر منها سوى وجهها، ويعتبر الزي الشائع وسط نساء السودان.
وتتكون الوظائف الإدارية العليا بالترتيب من الشيخ، والعمدة، والناظر، والبيه والسيد. ولكل منهم سلطة محددة وصولا لصاحب السلطة الأعلى وهو السكرتير.
ولا تقتصر الوظائف العليا على الرجال فقط؛ فللنساء أيضا وظائف قيادية في مجلس البرامكة تبدأ بالشيخة، ثم الملكة، ثم أعلى سلطة نسوية هي ملكة الملكات.
والمفارقة في مجلس البرامكة أن النساء لا يشاركن مطلقا في إعداد الشاي أو تقديمه، ويتولين فقط ترديد الأغاني الشعبية.
ولمجلس البرامكة الذي يلتئم عادة في المساء ثلاث حالات لانعقاده: الأولى تسمى "الانبساطة" أي للسمر، والثانية هي "المساعي الحميدة" وهذه تهدف لجمع المساهمات لمن لحق به ضرر من الأعضاء، والثالثة تسمى "المحكمة" وهذه لمحاسبة المخالفين لقوانين المجلس.
وضمن هيكلة المجلس خزينة يديرها شخص معين تجمع لديه مساهمات الأعضاء التي تكون حسب قدرة الواحد منهم للصرف على نفقات المجلس، علاوة على الغرامات التي تفرضها المحكمة والأموال التي تجمع لمساعدة المتضررين.
ويلتئم المجلس في مكان متفق عليه بين الأعضاء، لكن لا توجد مدة محددة حيث يمكن أن تزيد مدة انعقاده على أربع ساعات، كما يقول آدم الدود وهو سكرتير لأحد مجالس البرامكة.
ويضيف الدود لوكالة الأناضول أنه "لا يقدم في المجلس أي مشروب خلاف الشاي حيث يمنع العضو من وضع الكوب على الأرض قبل ارتشاف الشاي بالكامل، كما أنه يمنع كذلك ترك ولو قدر يسير منه في الكوب باعتبار ذلك تقليلا من قيمة الشاي".
ومن المخالفات أيضا القيام بأي حركة تشتت انتباه المغنين أو من يتبارون بالشعر، أو دخول المجلس والانصراف منه دون إذن من "الضابط" وهو الشخص الذي يراقب التزام الأعضاء بالقوانين.
ويمنع كذلك على أعضاء المجلس شرب الخمر إطلاقا، ولا يحق لهم تدخين التبغ أثناء الاجتماع الذي يرفع لأداء الصلوات لو حل ميقاتها، ويستأنف مرة أخرى.
وعادة ما تكون العقوبة غرامة مالية يدفعها الشخص المخالف، وفقا لما قاله مختار عبد الجليل وهو قاض في محكمة لإحدى مجالس البرامكة.
ويشير عبد الجليل إلى أنه "إذا لم يلتزم الشخص المخالف بدفع الغرامة، فإنه يقدم إلى محكمة موسعة تضم كل أعضاء المجلس. وفي حال رفض مجددا، يصدر حكم بنبذه ويمنع جميع الأعضاء من أهل المنطقة من التعامل معه حتى وإن كانوا أشقاءه أو زوجته".
واستطرد: "الناس يلتزمون بهذا الحكم، وبالتالي يجد المخالف نفسه منبوذا من مجتمعه ويضطر للإذعان للحكم الصادر بحقه".
ولا يعرف تاريخ بعينه لانعقاد أول مجلس للبرامكة في السودان لكن أهل هذه المجالس يجمعون على أنه تقليد منشأه اليمن، تمدد منها إلى العراق والشام وشمال وغرب أفريقيا، ومنها دخل إلى دارفور غربي السودان.
ويفخر أهل هذه المجالس بأن الخليفة العباسي، هارون الرشيد، كان له مجلس برامكة ينعقد بطقوس تكاد تكون مطابقة لطقوسهم اليوم.
ولا تقتصر هذه المجالس على دارفور، بل إن منسوبي القبائل المشتهرة بها يحرصون على تنظيمها في كل أنحاء البلاد التي هاجروا إليها، بما فيها العاصمة الخرطوم.