رغم انقضاء عقود طويلة من انعتاق الدول الأفريقية من
الاستعمار الفرنسي، فإن هذه البلدان لا تزال مكبّلة بعدد من العقود الاقتصادية التي يعود نفعها على المستعمر السابق، على حساب شعوب القارة السمراء، بحسب تصريحات متفرّقة لخبراء في المجال.
عقود لا تزال قيد التنفيذ، ولم تطلها ملامح التغيير رغم مرور نصف قرن من الزمن على إمضائها. فمستعمرات
فرنسا السابقة في المنطقتين الاقتصاديتين لوسط
أفريقيا وغربها، لم تنقطع طيلة هذه الفترة عن إيداع 50 بالمائة من مدّخراتها النقدية إلى الخزينة الفرنسية" بحسب الخبير
السنغالي "سيري سي"، وهو مختصّ في الجغرافيا الاقتصادية، وأكّد أنّ هذا الالتزام يعود إلى فترة ما قبل حصول المستعمرات السابقة على استقلالها.
وتعقيبا على الجزئية الأخيرة، أوضح المؤرّخ السنغالي "مصطفى ديانغ"، أنّ "السكّان المحليين يدفعون ضريبة الرؤوس (وهي ضريبة تحسب على كل فرد على حدة وعلى الأملاك الخاصة بهم، من مواد غذائية أو ماشية، ويستثنى من دفعها سكان داكار وغروي وروفيسك وسانت لويس، التي كان سكانها يعتبرون مواطنين فرنسيين). وهي ضريبة تدفع بشكل شخصي أو تتكفل السلطات المحلية بجمعها".
فرنسا من جهتها لم تعترف رسميا وعلانية ببنود اتفاقاتها السرية مع أفريقيا، رغم أنّ باريس قامت بتسهيل الآلية التي أفضت إلى إمضاء المعاهدة الاستعمارية التي أعقبت اتفاقات "بريتون وودز" (في تموز/ يوليو 1944)، وهي - فيما يبدو للعيان- معاهدة ببنود عمومية وشفافة، ولكنها في الحقيقة تخفي في طياتها "بنودًا سرية" تواصل إلى اليوم توجيه سير العلاقات الفرنسية الأفريقية. كما أنّ هذه المعاهدة الاستعمارية (التي ما زالت تسمى المعاهدة الاستعمارية الخاصة)، تشكّل نظام تبادل يضمن لفرنسا معاملة تفضيلية، وفقا للخبير السنغالي.
ويعود "سي" إلى تلك الفترة واصفا ما حصل بأنه كان أقرب ما يكون إلى "اتّفاق فرسان تم توقيعه في الحقبة ما بعد الاستعمارية بين الجنرال (شارل) ديغول من جهة ومن يعتبرون آباء الاستقلال في البلدان المعنية من جهة أخرى"، هذا بالإضافة إلى أنّ المعاملة التفاضلية حُمّلت ببنود تتماشى تماما مع تسميتها، خاصة أنّ فرنسا خصّت نفسها بحصرية إيرادات الدول الأفريقية من المواد الأولية، وبتزويد السوق المحلية لهذه الدول بصادراتها وتحديد السياسيات المتّبعة فيها، إلى جانب إرساء القواعد العسكرية.. و أخيرا، مراقبة العملات المحلية لهذه الدول.
الخبير أشار، في السياق ذاته، إلى أنّ مفتاح المعادلة العرجاء يكمن في النقطة الأخيرة، ذلك أنّه في الوقت الذي تمّ فيه إلغاء التعامل بالجنيه الإسترليني فور استقلال المستعمرات البريطانية في أفريقيا، فقد تمكّنت فرنسا من الإبقاء على فرنك المستعمرات الأفريقية (الفرنك الأفريقي). وبناء على ذلك، فقد وقع إرساء تعاون مالي بين فرنسا وهذه الدول الأفريقية "محكوم بـأربعة مبادئ أساسية، هي: ضمان تحويلات غير محدودة للعملة عن طريق الخزينة الفرنسية، والمساواة الثابتة، وقابلية التحويل الحر ومركزية احتياطات النقد الأجنبي"، ليصبح بذلك الفرنك الفرنسي الأداة المعدّلة للفرنك الأفريقي (1 فرنك فرنسي يعادل 100 فرنك أفريقي).
وفي مقابل الضمانات التي توفرها لها الخزينة الفرنسية، يتوجب على البنوك المركزية للمنطقتين الماليتين "إيداع جزء من مدخراتها من العملة في حساب يعرف باسم حساب المعاملات، وهو حساب مفتوح في سجلاّت الخزينة الفرنسية"، بحسب الخبير السنغالي، الذي أوضح أنّ "معدّل صرف العملة كان في حدود الـ100% خلال الفترة الفاصلة بين 1945 و1975، ليستقرّ، إثر ذلك، وانطلاقا من السنة الأخيرة، على 65%، وحرصت الدول المعنية على احترامه بانضباط كامل".
"سي" أضاف قائلا: "تم النزول بهذه النسبة من 65% إلى 50% في ما يتعلق بالرصيد الخارجي الخام للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، طبقا للاتفاقية التي تم إمضاؤها في 20 أيلول/ سبتمبر 2005، ولاتفاقية حساب العمليات الممضاة في 4 كانون الأوّل/ ديسمبر 1973".
وفي تطبيق للاتفاقية الجديدة لحساب عمليات مصارف دول وسط أفريقيا، الموقّعة في 5 كانون الثاني/ يناير 2007، فقد وقع التخفيض في هذه النسبة بشكل تدريجي، وانطلق العمل بنسبة 50% ابتداءا من الأوّل من تمّوز/ يوليو 2009، بحسب الموقع الرسمي لـ"بنك فرنسا" الذي يشير أيضا إلى أنّه تم تقنين حركة حساب العمليات، عبر عدد من الاتفاقيات".
ومن جهته، أشار المختصّ الاقتصادي السنغالي"سانو مباي"، وهو موظّف سابق في البنك الأفريقي للتنمية، إلى أنّ "فرنسا استثمرت هذه المدّخرات التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات في سندات الخزائن، لاستخدامها لاحقا كضمانات للقروض التي تتحصل عليها لتمويل عجزها العمومي".
أمّا "جون كلود ماييمبا مبيمبا" الأمين العام لمنظمة "أفريكان هيومن فويس إنترناشيونال"، الذي قام بتأليف العديد من الكتب في هذا الغرض، فلم يتوان من جهته عن تسمية الأشياء بمسمياتها حين وصف هذه المعاهدات بأنها "أكبر فضيحة إنسانية، عناصرها المصادرة والسرقة والعبودية".
ومع اعتماد اليورو كعملة أوروبية انطلاقا من عام 1999، فقد أصبحت هذه العملة الجديدة الأداة المعدّلة للفرنك الأفريقي، دون أن يشمل تأثير ذلك آليات تعاون المنطقة المالية، وتوضح ذلك بشكل جلي حين أضحى اليورو الواحد يعادل 655.95 فرنك أفريقي، وذلك بعكس العملات الأخرى التي تأثرت بأبعد من مجرد انعدام استقرارها، بأن شهدت تدنيا ملحوظا في مستوياتها.
"مباي" تحدث بشكل أكثر وضوحا حين ذكّر بأن، معدلات الصرف المرتفعة بشكل كبير، تمكّن الشركات الفرنسية على غرار "بويغ" و"لا سوييتي جينيرال" و"بي آن بي باري با" و"بولوري" من حماية أرباحها، بما يضمن لها عدم انخفاض قيمتها النقدية الجارية.
"مامادو كوليبالي" الرئيس السابق للمجلس الوطني الإيفوراي (البرلمان) كان أيضا من بين الأصوات التي صدحت تنديدا بالآثار المدمرة لـ"منطق التوحش" الذي ينطوي عليه الاتفاق الاستعماري في أفريقيا، حيث إنه يقول في كتابه "استرقاق المعاهدة الاستعمارية" الصادر في 2008: "لقد تحصلت الدول الأفريقية الفرنكوفونية (الناطقة بالفرنسية) على استقلال على الورق، لكنها على أرض الواقع ظلت جميعها تابعة لفرنسا، باستثناء غينيا التي رفعت لاءً في وجه شارل ديغول، بخصوص هذا التمشي".
ومن جهته، أضاف "ماييمبا مبيمبا" قائلا: "دولة حرة مستقلة ينبغي عليها أن تناضل من أجل عملتها، والفرنك الأفريقي ليس بعملة، وندرك لماذا يقوم مالكه الحقيقي (في إشارة إلى فرنسا) بما يحلو له".
أمّا الخبير "سيري سي"، فختم حديثه متسائلا: "إلى متى ستظلّ أفريقيا تشكل مجالا حيويا لفرنسا وترتبط بعلاقات ثنائية تتحكم فيها مصالح القوى الاستعمارية القديمة؟".