ليست القاهرة كالرياض وطهران في تأثيرهما بالشأن
اللبناني حتى يزورها زعيم تيار المستقبل الرئيس الأسبق للحكومة سعد
الحريري زيارة "إكسبرس" لبضعة ساعات، لكن الصورة التي جمعت الرئيس المصري مع الحريري) الذي اشتُهر بالتقاط صور الديجيتال المعاكسة (بدت بمغزاها وكأن الحريري يقول فيها "مع
السيسي سلفي، والسعودية وإيران خلفي".
فقد كشف قيادي في قوى الرابع عشر من آذار فضل عدم ذكر اسمه، أن الحريري الذي طلب من الرئيس عبد الفتاح السيسي التدخل لدى طهران لمحاولة حلحلة العقد في أزمة الاستحقاق الرئاسي اللبناني، عبر الضغط على حزب الله لإطلاق ورشة إنضاج توافق وطني على رئيس للجمهورية يطمئن الجميع، استأذن الرياض قبل أن يقرر بنفسه الزيارة، وهو يعلم أن الرياض تستعجل إنقاذ الاستحقاق الانتخابي الرئاسي اللبناني وعَبره إنقاذ اتفاق الطائف المهدّد بمؤتمر تأسيسي جديد، قد تفرضه الجغرافيا العسكرية المحيطة على وقع الانهيارات المتتالية لأكثر من عاصمة عربية في قبضة "الامبراطورية
الإيرانية".
علّ وصول رئيس جمهورية مسيحي وسطي مؤيَّد من الكنيسة المارونية يعدّل موازين القوى، في بلد بات ينظر الكثيرون فيه إلى الأمين العام لحزب الله السيد نصرالله على أنه يمارس دور المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية.
والرياض وإن كانت لا تنتظر حل عقدة الشغور الرئاسي في قصر بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية شرقي بيروت) من خلال اتصالات مصرية إيرانية، لكنها لا تمانع من تحريك المياه الراكدة في هذا الملف، وهكذا قرر الرئيس الحريري الاستعانة بصديقه الجديد عبد الفتاح السيسي تحت ضغط مثلّث الأبعاد:
أولاً، البعد الإقليمي المشار إليه آنفاً، والخشية من أن يفرض "المؤتمر التأسيسي الجديد" نفسه في بلد، برلمانه ممدّد لنفسه، ورئاسته شاغرة، وحكومته مختلفٌ على صلاحياتها، والشغور مفتوح على كبريات الوظائف العسكرية والأمنية والإدارية.
وأي اتفاق جديد ينسخ اتفاق الطائف لن يكون في أحسن نُسَخِه مرضياً لتيار المستقبل وما يمثل في الداخل والخارج.
ثانياً، البعد المحلي، حيث إن تيار المستقبل يقدم نفسه على الساحة اللبنانية بأنه تيار "الحكومة" والنظام العام والاقتصاد والعلاقات مع الدول المانحة العربية والغربية، وكل هذه عناوين لن تبقى أي أهمية لها إذا اتجه البلد نحو مزيد من الشغور والتعطيل والفوضى، التي لا يحسن "المستقبل" التعامل معها وفق التجارب السابقة، بل تفقده المبادرة والقدرة على حماية بيئته الحاضنة، وبالتالي تضعف دوره التمثيلي في بلد يعيش انقساماً نفسياً حاداً بين مكوناته الطائفية.
ثالثاً، البعد الشخصي للرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، الذي يريد تحصين موقعه داخل المملكة العربية
السعودية من خلال إيصال رئيس "توافقي" للجمهورية، عبر انتخابات تعقبها استشارت ملزمة للكتل النيابية لتسمية رئيس جديد للحكومة تُسلِّم قوى 8 آذار قبل غيرها، أن المعادلة التوافقية ستمنح أيضاً سعد الحريري مجدداً لقب "دولة الرئيس"، وهو لقب يحتاجه في عملية إعادة تقديم أوراق اعتماده لدى الإدارة الجديدة للمملكة، التي يؤكد نائبٌ شمالي من تيار المستقبل في مجالس خاصة أنها لم تطمئن الحريري بأي خطوة باتجاهه حتى الآن، بل على العكس فهي ترسل إشارات ودية عبر سفارتها في بيروت وعبر بعض كبار رجال الأعمال اللبنانيين المقيمين في السعودية، بأنها منفتحة على كل اللبنانيين على السواء، وهي لا تؤمن بنظرية احتكار التمثيل الطائفي لا سيما الطائفة السنية، والقرب من الرياض كما البعد ليس محكوماً بفواصل طائفية أو عرقية أو جهوية أو عائلية.
ومعلوم أن رئيس "المستقبل" الذي كانت تربطه أوثق الصلات مع الأمير بندر بن عبد العزيز ومع الرئيس السابق للديوان الملكي خالد التويجري المغيَّبين كلياً عن المشهد السياسي، لا يحظى بنفس درجة القبول عند رجال العهد الجديد، ولا سيما ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز أو حتى الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي ونجله والمستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين.
بناءً على ما تقدّم، وتحديداً على النقطة الأخيرة المتعلقة بالبعد الشخصي، نجد أن الحريري ينطلق من إرث علاقات داخل السعودية مشوّش، ومعظم التشويش سببه الحريري نفسه وبعض التصريحات التي يطلقها في مجالس خاصة أو عامة، محلية أو أجنبية، لا تتفق بالضرورة دائماً مع السياسات العامة وأحياناً التقاليد السعودية.
ويستمر الحريري في تصريحاته تلك وآخرها ما قاله أمام أعضاء مجلس بلدية طرابلس، في معرض رفضه مشروع هبة تركية لإعادة بناء "السراي العثمانية" وسط طرابلس، حيث نقل بعض الأعضاء عنه قوله "إن الهبة التركية مجرد وهم ولن تبصر النور، وتركيا اليوم لا تضعنا في حساباتها بل هي تهتم بأمورها الداخلية، وبدل أن تتبرع لنا بهبة مالية قدرها خمسون مليون دولار لإعادة بناء السراي العثمانية، فلتلتفت إلى مشاكلها المالية التي تنعكس سلباً على كل قطاعاتها".
علماً بأن هذا الموقف اتخذه الحريري بعد يومين على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البارزة إلى السعودية، وعقده قمة مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أجمع المراقبون على نجاحها في فتح صفحة جديدة وطيبة من العلاقات بين البلدين بعد تأثر هذه العلاقات سلباً على خلفية الأزمة المصرية.
وتحدثت بعد الزيارة أوساط متابعة للقمة بأن القيادة السعودية الجديدة تتوسط بين القاهرة وأنقرة، في ظل حديث عن سعي الرياض لتشكيل حلف يواجه المدّ الإيراني في المنطقة العربية.
إشاراتٌ لم يلتقطها الحريري الذي أعلن بعد لقائه السيسي رداً على أسئلة الصحفيين جملة مواقف قد يبدو بعضها، ولا سيما المتعلق بإيران، غير متناسق. فهو أكد الوقوف إلى جانب مصر في مواجهة "قوى الضلال والتطرف" وهذه القوى بحسب وصفة الحكم المصري الحالي تعني "تيار الإخوان المسلمين" الذي استقبلت الرياض مؤخراً ممثل نسخته التونسية راشد الغنوشي وتستعد لاستقبال رئيس "حماس" خالد مشعل، بعد أن فرشت السجاد الأحمر لداعم الإخوان الأول رجب طيب أردوغان.
ولربما حرصت العاصمة السعودية على الاستهلال بزعيم حركة النهضة التونسية الغنوشي الذي قدم مصلحة بلاده وشعبه على مصلحة تياره السياسي، تماماً كما فعلت حماس عندما حلّت حكومتها في غزة لصالح حكومة التوافق الوطني في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.
حيث إن معالم المرحلة الجديدة في السعودية تبدو بأنها تعطي الأولوية لاستعادة دور الرياض "الأبوي التقليدي" للعواصم العربية، وتحشيد ما أمكن من القوى الحية لمواجهة خطرَي محور "الامبراطورية الإسلامية الإيرانية" ومحور "تنظيم الدولة الإسلامية"، أما محور "الإسلام السياسي" وإن كانت تحذره "الرياض الجديدة" فهي لا تجد فائدة في مواجهته ومعاداته أقله في المرحلة الراهنة، فالأولوية بالنسبة لها وضع حدٍ للطموحات التوسعية لإيران، التي قال فيها الرئيس سعد الحريري في تصريحاته ذاتها للصحفيين المصريين بعد لقائه الرئيس السيسي كلاماً ملتبساً، فأكد أن "الاعتدال هو بمواجهة كل أنواع التطرف وليس نوعاً واحداً من التطرف.
فالتطرف موجود إن كان التطرف الإيراني أو التطرف الذي نراه في داعش والنصرة"،لكنه وبعد لحظات قليلة استدرك وقال"في موضوع إيران، لدينا ملاحظات ولكن هذا لا يعني أننا ضد إيران. نحن نريد أن تكون علاقاتنا بإيران لمصلحة لبنان ولمصلحة إيران معاً، وليس لمصلحة إيران فقط".
صحيح أن لزعيم "المستقبل" أكثر من مبرر لعدم الذهاب بعيداً في العداء مع إيران خصوصاً إذا كان يتطلع للعودة إلى القصر الحكومي في بيروت، فإيران قيّمة على طرف لبناني أسقط حكومته السابقة وهو داخل البيت الأبيض، وأسقط مؤسساته السياسية والإعلامية في موقعة 7 مايو أيار الشهيرة، ويرفض تسليم خمسة من أفراده تتهمهم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقادر على إقفال بيروت ببضعة أمتار من القمصان السود.
وصحيح أن السياسة السعودية ومنذ العام 2010 حرصت على فض الاشتباك مع المعسكر الإيراني في لبنان وسوريا، وتجلى ذلك بالزيارة التاريخية التي قام بها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز نهاية تموز يوليو 2010 لبيروت مصطحباً معه الرئيس السوري بشار الأسد، لكن الصحيح أيضاً هو أن إيران 2010 لم تكن دولة مجاورة للمملكة كما هي اليوم من البوابتين اليمنية والعراقية، وربما لم تعد الدوائر السعودية تقتنع بأن إعطاء طهران في بيروت ودمشق يسد شهيتها المفتوحة على الخليج العربي.