ركام وأطلال، بنايات ومنازل قد تبدو لك من أول وهلة وكأنها من زمن العصور القديمة، أو أنها صورة "ستالينغراد" وقت تدميرها، ذلك هو مشهد الأحياء السكنية التي تشكلت في أسوأ صورة مأساوية خربتها آلة الحرب الدائرة في غرب العراق منذ الأيام الأخيرة من كانون الأول/ ديسمبر عام 2013 وحتى الوقت الحالي.
أحياء سكنية شكلت مجتمعا إنسانيا يتسم بكل مقومات الاستقرار، لكنها اليوم تعيش واقعا عكس تاريخها الآمن. فحتى أنابيب الماء لم تسلم من فعل المتحاربين، حيث تحولت من الانسياب في الأنابيب إلى سيل في الطرقات والشوارع، التي تملؤها الحشرات والقمامة، ورائحة البارود، ودخان الإنفجارات يغطي أجواءها، بينما كل زاوية، وركن منزل، أو بناء، يحكي قصة إنسانية جميلة كانت في أيام سبقت ظروف الحرب.
وتحكي قصة رعب وخوف جراء ما يجري من عنف ما كان أن يحصل لولا فعل السياسيين والعابثين بأحوال بلاد مزقتها آلة الحرب من فعل النزاعات الحزبية، في عراق تشكل من نتاج الغزو و الاحتلال الأمريكي مطلع 2003.
ويقول الحاج عبد الله محمد الدليمي- وهو من أقدم المعلمين في الأنبارـ بلغة المفجوع مما جرى لمدينته ومجتمعه الذي حمل كل صفاته الحميدة: "ربما يتساءل الناس أين هذا الدمار وبأي مدينة حصل؟ وهل هذا حصل في إحدى مدن
العراق حقا، أم هي صورة دمار وقع في بلد خارجي، لكن أجريت عليها عمليات مونتاج فني لتوظف بما يعكس وضع العراق؟".
واسترسل قائلا: "إنما الواقع هي صورة المشهد الحالي لمدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار الواقعة لمسافة 110 كيلومترات غرب بغداد، وقد أصبح أكثر من نصفها بأيدي "تنظيم الدولة" منذ بداية العام المنصرم، وشهدت حروبا شرسة بين القوات الأمنية والعشائر، وتنظيم الدولة، قتل فيها الآلاف من المدنيين، وبنفس العدد أو أكثر منه من العسكريين، والمسلحين، والمتطرفين حتى اختلطت في أرضها دماء المتخاصمين في مواجهات فر وكر".
وأردف الدليمي الذي أصر على البقاء في منزله على الرغم من تعرض معظمه لأكثر من أربع مرات لقصف جوي، وسقوط قذائف هاون عليه، فضلا عن مئات الرصاصات التي أصابت جدرانه، قائلا: "قررت الموت، أو البقاء صامدا ليس لسبب معين لكني فضلت النأي بنفسي من الاضطهاد والتشرد في مدن أخرى أخسر فيها كرامتي"، وبعد وقت من الصمت واضعا يديه على وجهه، عاد ليكمل كلامه بلجهته الدليمية "من ترك داره قل مقداره".
مدينة الرمادي التي لم تستسلم كلها لمسلحي تنظيم الدولة على مدى سنة وأربعة أشهر تقريبا من المعارك الشرسة إلى جانب سلوكيات سلبية بدت من عناصر مسلحة مندسة في القوات الأمنية، تبدو بصورة أكثر من سيئة فأغلب أحيائها عبارة عن حجر، و"طابوق"، وركام، وأنقاض توحي للناظر بأنها تعرضت لزلزال أو ضربة مؤثرة لا تنسى بحكم الزمن كما هو حال هيروشيما، ونكازاكي باليابان في الحرب العالمية الثانية.
ويتدخل في الحديث رجل طاعن في السن يجلس بجوار الحاج الدليمي، ويقول إن أحياء كبيرة بالرمادي مثل "البكر" بوسط الرمادي، لم يبق منها سوى الركام من أصل ثلاثة آلاف منزل، فضلا عن عمارات وأسواق، والأمر لا يختلف عن أحياء "الحوز"، و"الضباط"، والملعب، التي سويت غالبية منازلها وبناياتها مع الأرض.
والحال نفسه يتكرر في منطقة "التاميم" الواقعة في الجزء الغربي للرمادي، بحسب ما يحكي أحد سكانها ويدعى سيف علي لـ "عربي 21"، ويقول: "لم تعد لنا منازل مطلقا، وأصبحنا اليوم نملك عقارات عبارة عن أراض سكنية، وكل الخوف من وقوع حالات تزوير في سجلات التسجيل العقاري ونخسر حتى الأرض".
وأضاف علي: "هنالك أحياء سكنية تذكرها مخيلتنا، لكنها اليوم أصبحت في خبر كان، ولا ندري عند انتهاء العنف وعودة العائلات لديارها قد نفقد الكثير من الناس من هول الصدمة التي ستواجههم لأنهم سيعودون إلى ذكريات بيوت كانت قائمة".
وبنظر المراقبين، فإن العراق يعيش "حربا كونية"، وقال المحلل الإستراتيجي العميد محمد عبود، إن "كوارث الحرب في العراق منذ 2003 لا تعدو كونها حرب عالمية ثالثة تدور مواجهاتها على أرضها بالجزء الغربي والشمال الشرقي، وربما تتمركز في الأنبار".
وقال أيضا: "بينما يستمر الصراع، يزداد سعير نيران أحدث الأسلحة التي دخلت ميدان القتال والمحرقة من مدافع ودبابات وطائرات وصواريخ، جلها من إنتاج المجمع الصناعي الأمريكي الذي انشغل بتلبية طلبات الدول، ومافيات تجار الأسلحة لأكثر من 12 سنة".
الرمادي التي تتأبط نهر الفرات من الجانبين الغربي والشرقي، عرفت تاريخيا بانتشار مطاعمها ومقاهيها وبناياتها الفخمة الشاهقة التي تقع عند شواطئ ذلك الفرات الجميل.
كل هذا العز والجمال، تحول إلى مأساة على الناس الذين غادروا بنسبة 85 بالمائة من إجمالي السكان العام للمحافظة منازلهم مشردين، ونازحين بين المدن والقصبات، ولم يبق من تلك الصورة الجميلة سوى الذكريات، ولسان حال الناس يتساءل: يا ترى هل ستعود تلك الأيام وتعزف أصوات الأعراس؟!