لم يخض
الحوثيون، منذ ما يعرف بحرب صعدة السادسة في 2009 ـ 2010، أية حرب فعلية. هذا لايعني بالطبع انهم غير قادرين على خوض غمار الحرب، ولكن ما يعنيه أن ليس ثمة دليل على أن لديهم من القدرات العسكرية ما أهلهم للسيطرة على ما يقارب من نصف محافظات اليمن الشمالي، بما في ذلك العاصمة. حقيقة الأمر أن الحوثيين لم يكونوا مضطرين للحرب، لأن الأغلبية الساحقة من قوات
الجيش اليمني، بكافة فئاته، سلمت معسكراتها ومقار قيادتها، أو أعلنت الولاء للحكام الجدد.
والواضح اليوم، وبعد مرور أسبوعين على انطلاق عملية «
عاصفة الحزم»، أن الحوثيين ليسوا سوى جزء صغير من المواجهات الدائرة في بعض مناطق البلاد. من يخوض الحرب بصورة أساسية في عدن وفي الضالع وشبوة والبيضاء هي قوات الجيش، سواء تلك المتواجدة أصلاً في معسكرات قريبة من نقاط المواجهة، أو التي أرسلت من مواقع تمركز عسكرية رئيسية خلال الأسابيع القليلة الماضية. والواضح أيضاً أن السعوديين، الذين يقومون بالعبء الأكبر من «عاصفة الحزم»، يعرفون من اليوم الأول أن الحوثيين ليسوا بالضرورة الهدف الرئيسي للقصف الجوي. الهدف هو قوات الجيش؛ لأن هذه القوات هي من أوقع الخلل الكبير في ميزان القوى، الخلل الذي سمح للحوثيين بالتوسع والسيطرة على العاصمة ومقدرات الدولة.
هذا جيش علي عبد الله
صالح، وهو جيش تقوده طبقة ضباط تنحدر في أغلبيتها من اليمن العليا. قلة صغيرة من طبقة الضباط جاءت من مناطق اليمن الأخرى. خلال عقود حكمه الطويل، عمل الرئيس اليمني السابق بحنكة ودهاء، وباستخدام العصبية الجهوية والمال، على صناعة الجيش الذي يريد.
وعندما قرر التخلي عن الحكم، تحت ضغط كبير من السعودية ودول الخليج الأخرى، لم يتخل عن مصدر قوته الرئيس: الجيش. ولأن المبادرة الخليجية، التي أسست للعملية الانتقالية في نهاية 2011، وفرت لصالح حصانة وحماية، ولأن صالح يمتلك ويستطيع التصرف بثروة مالية هائلة، تفوق حتى رصيد الجمهورية اليمنية المالي، كان بإمكان الرئيس السابق أن يطيح بخلفه في أي وقت أراد. وما شهده اليمن منذ الصيف الماضي هو عملية إطاحة فعلية بنظام ما بعد الثورة اليمينة. لو أراد صالح أن يستمر في الحكم، بإطلاق العنان لجيشه لمواجهة ثورة 2011، كما فعل بشار الأسد والقذافي، لفعل. ولكن صالح أدرك مبكراً أن ليس من مصلحته الاستمرار في الحكم، أو حتى محاولة العودة المباشرة للسلطة بعد ذلك؛ وأصبح خياره تمهيد الطريق لصعود ابنه إلى مقعد الرئاسة، مرتكزاً إلى قوة الجيش والتحالف من الحوثيين. وحتى التحالف مع الحوثيين، لم يكن في مخطط صالح، دائماً بالضرورة. من وجهة نظر الرئيس السابق، كان الحوثيون مجرد أداة مناسبة لتوفير الظروف المناسبة لعودة أسرة صالح إلى الحكم. أداة صالح الدائمة، وركيزته الأساسية، هي الجيش.
تخلص اليمن من دولة الإمامة منذ أكثر من خمسين عاماً. وإن كان للجمهورية من معنى أولي فلا بد أن يتصل بكينونة جيشها وولائه. هذا ليس جيش الملك، ولا الإمام، ولا الأسرة الحاكمة. هذا جيش الجمهورية وشعبها. ولكن الجيش اليمني لم يكن كذلك؛ لأنه لم يعد منذ زمن بعيد جيش اليمن ولا جيش شعبها. هل ثمة ما هو غريب في الحالة اليمنية؟ ليس كثيراً بالتأكيد. أغلب جيوش الجمهوريات العربية هي بصورة أو أخرى ليست جيوشاً وطنية ولا هي جيوش الشعب الذي يدفع لوجودها من قوته اليومي. الخلاف الوحيد بين هذا الجيش وذاك هو في طبيعة العلاقة التي تربطه بالوطن والشعب.
الجيش المصري، أقدم الجيوش العربية الحديثة على الإطلاق، تعرض لتطور تدريجي في موقعه ووظيفته منذ انقلاب 1952. كونه القوة التي أطاحت الملكية وأسست النظام الجديد، رأى الجيش نفسه صانع الجمهورية وحارسها وقوتها القائدة. أدرك البكباشي جمال عبد الناصر، أستاذ كلية الحرب السابق، الذي سيتولى رئاسة الجمهورية بعد ذلك، أن خروج الجيش من الساحة السياسية ضرورة حيوية لإقامة دول مستقرة. ولكنه لم يستطع مطلقاً إبعاد الجيش عن الحكم. فقط خلال السنوات القليلة التالية لهزيمة 1967، وبفعل ثقل الهزيمة، بدا كأن الجيش ابتعد عن التدخل في الشأن السياسي، وإن ليس بصورة كلية. بعد حرب 1973، عقد السادات صفقة غير مكتوبة مع المؤسسة العسكرية، عندما فتح أمامها أبواب المجال الاقتصادي والتجاري، وضمن لها السيطرة الدائمة على رئاسة الجمهورية. ذهاب مبارك، الضابط السابق، إلى خيار التوريث، كان السبب الرئيسي خلف موقف الحياد الذي اتخذه الجيش عندما بدأت الملايين من المصريين في محاصرة الرئيس خلال أسابيع ثورة يناير الثلاثة. ولكن الجيش، الذي فاجأته الحركة الجماهيرية العارمة، لم يكن مستعداً بعد للتخلي عن قيادته للجمهورية التي صنعها. وعندما أتيحت الفرصة في صيف 2013، أطاح الجيش بأول رئيس منتخب في تاريخ البلاد، وأول دستور كتبه ممثلو الشعب، وأعاد الجمهورية إلى سابق عهدها: جمهورية الجيش.
في سوريا، كان الأمر مختلفاً قليلاً. وقعت سوريا، بعد محاولات متعثرة من الحزب، تحت حكم البعث منذ مارس/ آذار 1963. ولكن قيادة الحزب هذه المرة اختلفت إلى حد كبير عن المجموعة التي أسسته في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي. أغلبية قيادات حزب الستينات، حزب ما بعد انهيار الوحدة المصرية ـ السورية، تشكلت من ضباط ينحدرون من الأقليات الطائفية. وخلال الفترة بين 1963 و1971، نجح الضباط العلويون، أولاً، في التخلص من زملائهم الدروز والإسماعيليين، ثم أطاح حافظ الأسد بالعلويين من منافسيه، لتنتهي مقاليد الحكم إلى عصبية صغيرة داخل الطائفة العلوية. وما وقع على مستوى قيادة النظام، سرعان ما انعكس على قيادة الجيش وأجهزة الأمن، سيما طبقة الضباط. لم يعد الجيش السوري جيش الحزب القومي العربي، ولا جيش الوطن والشعب السوريين. الجيش السوري، الذي تحرك بقضه وقضيضه لسحق ثوة الشعب السلمية في ربيع 2011، لم يكن سوى جيش الأسرة الحاكمة، تماماً كما الجيش اليمني.
ليبيا، التي أقام فيها القذافي خلال أربعة عقود من الحكم دولة تقع في المنطقة الرمادية من الدولة واللادولة، لم يكن للجيش فيها من أهمية تذكر. مختصراً الطريق، حول القذافي، الذي وصل إلى الحكم بقوة الجيش، جيش البلاد إلى مؤسسة هامشية، عاجزة، وأقام إلى جانبها جيشاً آخر من الكتائب حسنة التدريب والتجهيز من أبناء المناطق والقبائل خالصة الولاء للزعيم وأولاده. أما في الجزائر، فقد برز جيش التحرير الوطني، بقياداته المنحدرة من الجيش الفرنسي، منذ سنوات الاستقلال الأولى باعتباره القوة الرئيسية في البلاد. وبالتراجع الحثيث في حظوظ وتأثير جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد في البلاد، تعزز موقع الجيش ودوره، ليصبح أقرب إلى مثال الجيش المصري منه إلى المثالين السوري واليمني.
منذ اندلاع حركة الثورة العربية، أحجم جيش الجمهورية التونسية، الصغير أصلاً، عن التدخل في الساحة السياسية، وأنقذ نفسه. كتائب القذافي الخاصة، ذراع نظامه العسكرية الباطشة، انهارت وتشظت. وما تبقى من الجيش، تحول إلى أداة ارتزاقية في يد الثورة المضادة. في سورية، وبعد أربع سنوات من الصراع الدامي، لم يعد الجيش السوري سوى صورة بائسة لما كان عليه. أما الجيش اليمني، فإن استمرت «عاصفة الحزم» لبعض الوقت، وهي مرشحة بالفعل للاستمرار، فلن يختلف مصيره عن مصير جيشي القذافي والأسد. نجح الجيشان المصري والجزائري في إحكام قبضتيهما على نظام الحكم والدولة، ولكن لا الجزائر ولا مصر وقفت بعد أمام تحديات مشابهة لما واجهته ليبيا وسورية واليمن. في عاصفة الثورة والتغيير التي يعيشها المجال العربي، لم تنكشف الطبيعة الأقلوية للحكم وحسب، بل وانكشفت حقيقة بنية جيوش الجمهوريات العربية كذلك؛ وأخذت هذه الجيوش في الانهيار والتشظي، الواحد منها تلو الآخر. هذه لحظات حاسمة في مصير الدولة العربية وجيشها، لحظات تبعث على الأسى والشعور بالخسارة والفقدان وخيبة الأمل. هل يمكن لدولة حديثة أن توجد، أن تدير شؤون الوطن، بدون جيش؟ ولكن، أتستحق هكذا جيوش أصلاً أن تفتقد؟