كتاب عربي 21

السياسة المقدسة

1300x600
بإمكانك أن تتحالف مع "الضالين" عند الحاجة سرا، ثم تجهر بدعائك عليهم لتتخلص أمة الإسلام من شرورهم إذا انقضى منهم الوَطَر.

هكذا تجري الحرب في اليمن، التي تجلى فيها زج الدين في الصراع السياسي، أكثر من أي تنظيم ديني كانت تلك تهمته الرئيسية، ومدّعي التهمة وزاعم المدنية هو الفاعل لها الآن، وربما تجدر الإشارة إلى أنه ليست الأولوية لبحث الخطر الشيعي أو السني لأحدهما على الآخر، بل الواجب تحريض الأمة على الاصطفاف، لا لمجرد المخاطر المشتركة فحسب، بل لأجل طبيعة المكون الثقافي المشترك، والآخذ من نفس القبس.

عقب ثورات الربيع العربي، اتفق المتضررون والمتخوفون منها على وجوب هدمها ووقف زحفها، وكان لليمن نصيب من ذلك الربيع، إلا أن الدول "السنية" -خاصة المجاورة- خشيت من امتداد الحراك لأرضها، فاجتهدت لحينٍ في الحفاظ على الحاكم المستبد هناك، ولما طالته يد الثورة كان العلاج والدواء في البلد القائد للحرب الآن، وتم إجهاض الحراك بالمبادرة الباهتة لدول الجوار، وتجاوز أهل اليمن عن استمرار الحراك أملا في النهوض بوطنهم، والاكتفاء بما تحقق.

هدأت الشعوب التي خرجت للحرية ونشطت بالمقابل القوى المضادة لها إقليميا وداخليا؛ فكان الساعون لإجهاض ما تم إنجازه لا يستنكفون إثارة الأقليات أيا كان مذهبهم، فدعموا -وهم سنّة- الحوثيين "الشيعة" باليمن، في مقابل مطالب التغيير التي حملها سُنّيون بالمقام الأول، وأّمّنوا الحاكم المستبد السني "المتحالف" مع الحوثيين، كل ذلك ولم يخرج أحد ليتحدث عن كونهم من "الروافض الكفار، أو أنهم أشد خطرا من اليهود"؛ فالمصلحة ههنا معهم، وطالما أنها كذلك فتكييف ذلك مع الدين أمر لا بد منه، أو في أفضل الأحوال الصمت عن خطرهم وتركهم للصراع بالوكالة مع راغبي التحرر من باب "اللهم أهلك الظالمين بالظالمين" كما يصور المشائخ المناصرون للسلطات.

بالمقابل كان موقف الدولة الإيرانية "الشيعية" يحمل نفس التناقض، فرحبت بما حدث في مصر وغيرها، ووقفت كأقوى حائط صد ضد التحرر في سوريا المنكوبة، وكذلك تعبث بالعراق، وربما يمتد عبثها باليمن كذلك إن استمرت "العاصفة"، كل ذلك يتم بتوظيف ديني لأجل مكسب سياسي، وهو أمر يعد الأخس على الإطلاق لربطهم الممارسة بكل انحطاطها بمقام الدين المعظّم، يستوي في ذلك زعماء السنة والشيعة.

الحملة التي تجري لتسويق تلك المعارك ركنها الأساسي مرتكز على ربط القضية بالدوافع المعنوية، وأعزها دافع الدين، وانخراط المشايخ فيها ما بين غير مدرك لما يجري من الحكام، وبين متواطئ لإرضائهم ولو كان على حساب ما يدين لربه به، أو هؤلاء الذين تطرفوا في عداوتهم فجعلوا الشيعة كفارا وفي مقابلهم من جعلوا السنة ناصبة، وهؤلاء لا رجاء منهم، ومن قبلهم لا خير فيهم، أما الأولون فأوْلى لهم الانكفاء على ما يحسنون دراسته وتدريسه، وتعلّم ما يعينهم على الخوض في هموم الأمة قبل التطرق لها، فالذائع أن مسائل الأمة المستحدثة -في شتى العلوم- يقف فيها أهل الشريعة موقفا هامشيا لاحتياجهم لأهل التخصص، فيصير تحسين غيرهم وتقبيحه هو مدار الحكم الشرعي، وتلك الاستعانة لا تشين صاحبها، إلا أن من كان ذلك حاله فلا يقحم نفسه فيما لم يستقم فيه عوده.

منذ سنوات وهناك دعوات تخرج لفصل "الدعوة عن السياسة"، والقصد ليس فصل الدين عنها، بل وضع الحاجز بين الدعوة -وخاصة الداعية- "والممارسة" السياسية؛ فالممارسة السياسية تخضع للمصالح والمفاسد، وكذلك يدخل فيها سلوكيات الأفراد على تفاوتهم، ففصل الممارسة والتفصيل عن الدين مطلوب، أما فصل القيم الكلية والعامة عنه غير منادى به، من قِبل العاقلين والمدركين لأهمية هيمنة السلطان الديني على سلوكيات الأفراد أثناء التعاطي مع الشأن العام، كالحريات وحفظ الحقوق ورد المغصوب ومنع الاحتكار وغير ذلك مما يتعلق بالقضايا الكلية، وما يتم في تلك الحرب يجافي المطلوب ويوافق الزج الدنيء بالمقدس في المدنس.

رغم كل التدليس الذي يتم يبقى المنظور للعين مخالفا للدعاية، فلو كان أحد يقدر على الجزم بكفر كل الشيعة، فليمنعهم بيت الله الحرام ومسجد رسوله، ومن كان يقدر على الجزم بكفر السنّة ويعتبرهم من النواصب فلا يصلي خلفهم، لكن ما نراه في بيته المعظّم وجوار رسوله، يقطع بأن قرارة النفس تطمئن لإسلام الكل، ويأبى اللسان المسيء والقلب المشرب بالبغضاء من التسليم لفطرة الله التي فطر الناس عليها، إلا أن الفعال تنطق بالاتفاق أمام بيت الله، الذي تنكسر عنده حظوظ الدنيا.

من أراد أن يرى هذه الأمة دون طائفية فليقصد بيته الحرام ومسجد رسوله، يرى الشيعة يصلون خلف السنة، والسنة يقومون على خدمتهم وتوفير الراحة لهم، حتى ولو أساء اللسان، فالفعل أصدق دليل على ما يدين الكل به لله، ولا تلازم بين التوافق وبين مجازاة المخطئين.

حرب اليمن حرب سياسية، ونزاع العراق سياسي وكذلك سوريا، إلا أن من لا يرعوي عن إزهاق ما عظّم ربنا، لن يثنيه شيء عن زج الدين في حربه ونزاعه، ليقلبه من سياسي لطائفي بغيض.