معركة
الحجاب في
مصر ليست جديدة، إنها حلقة في سلسلة من هجمات الكر والفر تتصاعد حينا وتخبو أحيانا حسب المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي، وهي دائما إحدى معارك النخبة العلمانية (بأوجهها المختلفة اليسارية والليبرالية والعسكرتارية)، تشعلها حين تشعر بضعف الطرف الآخر وهو القوى الإسلامية في المجتمع.
لا أستهدف هنا تأكيد فرضية الحجاب، ولكن ما يعنيني هو أن هذه المعركة الحالية هي جزء من معركة كبرى ضد الهوية أشعل فتيلها الجنرال عبد الفتاح السيسي بدعوته للتجديد الديني، وذلك في إطار معركته مع القوى الإسلامية التي فازت في كل الاستحقاقات الديمقراطية، ومثلت تحديا لحكم العسكر الممتد منذ مطلع الخمسينيات فانقلب عليها وعلى الرئيس المنتخب الذي ينتمي إليها (د. محمد مرسي)، رغم أنه (أي السيسي) كان يتصنع التدين في إطار خطته للخداع الاستراتيجي، ويتباهى بحجاب زوجته، و"يزايد" بطلب فتوى من بعض مشايخ السلفية لإقناع ابنته بالعدول عن النقاب والاكتفاء بالحجاب العادي.
ما إن أطلق السيسي دعوته لما وصفه بالتجديد الديني حتى تلقفها غلاة العلمانيين، والتحفوا بها في معركتهم ضد الهوية الإسلامية لمصر، فراح البعض يحرق كتبا إسلامية في احتفال رسمي بحضور وسائل الإعلام والتصوير، وراح البعض يطعن في الصحابة والتابعين، وفي السنة والسيرة، وتكفل فريق آخر بجولة جديدة من المعركة ضد الحجاب، فدعوا لمليونية لخلعه في ميدان التحرير، الذي امتلأ خلال أيام الثورة الثمانية عشر بعشرات الآلاف من المحجبات.
يتباهى هؤلاء العلمانيون بمصر الخمسينيات والستينيات التي لم يكن الحجاب فيها معروفا إلا في الأرياف، ويريدون إعادة مصر لذلك الزمن الذي يصفونه بـ"الجميل"، وما لا يظهره هؤلاء العلمانيون أن معركتهم ضد الحجاب هي جزء صغير من معركة كبرى ضد الهوية الإسلامية، واللحاق بهويات آخرى يتوهمون أنها ستنقلنا من الظلام إلى النور، ومن الجهالة إلى الحضارة، ويتناسون أنهم فرضوا فعلا تصوراتهم على المجتمع المصري منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته دون أن يحقق ذلك لمصر قفزة علمية أو صناعية أو ثقافية بل الصحيح أنه أوردها المهالك بهزيمة ساحقة في 1967 وتراكم الديون عليها بالمليارات.
حين زاد الأمر عن حده انتفض المجتمع المصري ضد دعوات خلع الحجاب، وضد حملات الطعن في صحيح الدين التي قادها كتاب وإعلاميون يرتبطون بشكل وثيق بنظام السيسي، وهنا تدخل الجنرال ليطفئ أو على الأقل ليهدئ النار التي أشعلها، والتي أصبحت تهدد بحرقه شخصيا، فأصدر تعليمات جديدة بتهدئة النبرة، وتلطيف الخطاب حتى لا ينقلب المجتمع كله ضده، لكن المؤكد أنه سعيد في قرارة نفسه بما قام به "صبيانه" من تقليب المجتمع، وتحريك الشبهات لدى قطاعات كبيرة.
معركة اليوم مع الحجاب هي امتداد لمعارك سابقة، بدءا من معارك قاسم أمين وهدى شعراوي وأمينة السعيد، ولا ننسى في هذا الإطار قرار وزير التربية والتعليم منتصف التسعينيات حسين كامل بهاء الدين (ابن التنظيم الطليعي في الستينيات) والذي وضع قيودا على حجاب الطالبات في المدارس، لكنه قوبل برد فعل معاكس تماما بارتداء السافرات للحجاب لترتفع نسبة المحجبات في المدارس أضعافا، إلى درجة أنه لم تعد فتيات سافرات سوى المسيحيات تقريبا.
وإذا كان العلمانيون يدّعون في إطار معركتهم ضد الحجاب أنه رمز سياسي للتيار الإسلامي، وهو كذب بواح بدليل انتشار الحجاب بين فتيات وسيدات ينتمين للأحزاب
الليبرالية واليسارية، وبدليل انتشاره أيضا بين زوجات وبنات ضباط الجيش والشرطة والقضاة وحتى الإعلاميين، إلا أن المؤكد أن معركة هؤلاء العلمانيين ضد الحجاب هي معركة سياسية بامتيار، يريدون من خلالها تسجيل انتصار وهمي على ما يعتبرونه عدوا سياسيا، ويفرضون من خلالها تصوراتهم لمجتمع منسلخ تماما من هويته وعقيدته ليسهل لهم حكمه، وهم الذين يدركون الآن أنهم ملفوظون شعبيا، يتلقون الصدمات تلو الصدمات أمام صناديق الانتخابات، وهم يستغلون الآن غطاء عسكريا في معركتهم متدثرين في عباءة السيسي الذي فتح لهم الباب واسعا لطمس هوية المجتمع حتى يستمتع هو وصحبه بحكم مصر، وينهب خيراتها دون وازع من دين أو ضمير أو قانون.
من المؤكد أن المعركة ضد الحجاب ستخسر هذه الجولة رغم محاصرة القوى الإسلامية، وانشغالها بمعركة الحرية والديمقراطية، واستعادة الثورة، وسبب الفشل هو تجذر مسالة الحجاب في المجتمع، وانتشاره دون قرار سلطوي كما حدث في
إيران مثلا التي أصدرت حكومتها بعد ثورتها الإسلامية في العام 1979 قوانين تجبر النساء على ارتداء الحجاب حتى لو كن غير مسلمات، وهو ما تم تطبيقه فعلا حتى مع الزائرات الأجنبيات، وأطلقت السلطات العنان لبعض لجماعات الطوعية بمراقبة الالتزام بالحجاب، وملاحقة غير الملتزمات، وقد شهدت ذلك بنفسي، لكنني شهدت أيضا تمرد الكثير من الإيرانيات على الحجاب المفروض عليهن، وذلك بوضع الغطاء على مؤخرة الرأس ليكشف معظم الشعر من الأمام، وبخلع الحجاب تماما بمجرد الصعود إلى الطائرة في رحلاتهن الخارجية، أو حتى داخل بعض الكافيهات والمطاعم البعيدة عن أعين السلطات ومعاونيها.
وفي المقابل فإن فرض السفور بقرار من مصطفى كمال أتاتورك في
تركيا، وبقرار من الحبيب بورقيبة في تونس، لم يصمد كثيرا، فبمجرد أن فتحت أبواب الحرية في كلتا الدوليتن عادت الكثير من الفتيات لارتداء الحجاب بعد رفع الحظر القانوني، ووجدنا الكثير من طالبات الجامعات التركية والتونسية يرتدينه بعد أن كن يمنعن من دخول الجامعة ويضطررن إلى السفر إلى دول غربية للدراسة كما فعلت بنات الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وكما فعلت الطالبة مروة قاوقجي التي كانت عنوانا لمعركة الحجاب حين انتخبت لعضوية البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية عام 1999، ولكن الرئيس التركي وقتها سليمان ديمريل منعها من دخول البرلمان، وتم إسقاط الجنسية عنها واضطرت للهجرة بحجابها إلى الولايات المتحدة.
وإذا كان من المؤكد أن هذه المعركة ستنتهي بخسران مبين، فإن المطلوب من القوى الإسلامية الآن عدم الوقوع في شركها، وعدم الانصراف عن معركتها الرئيسية ضد الانقلاب على الديمقراطية والإرادة الشعبية، ومعركتها من أجل استرداد
ثورة يناير بكل ما تعنيه من استرداد للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.