تمدّد مخالب الثورة المضادة في
تونس لا تخطئها العين وهي تسعى اليوم لاستعادة كامل المجال الذي كان لها قبل اندلاع فجر ثورة الكرامة صبيحة 17 ديسمبر 2010. فبعد "غزوة الأصنام" الأخيرة التي جادت بها قريحة وكيل "فريدم هاوس" الاستخباراتية في قصر قرطاج من أجل إعادة أوثان الوكيل الاستعماري الأول "الحبيب بورقيبة"، ها هي الذراع الأمنية لنظام "بن على"
الاستبدادي تحاول اختراق النظام التشريعي عبر محاولة تمرير قانون "زجر الاعتداء على الأمنيين" الذي يسمح حقيقةً بنسخ المنوال الاستبدادي وإعادة الهيكل القمعي للدولة البوليسية التي كانت سببا في اندلاع ثورات الربيع العربي.
"الخبر جيّد جدا" من وجهة نظر ثورية لأنه ـ وبفضل غباء عقل الدولة العميقة وتخبُّطه أمام واقع الممارسة السياسية وتراكم ملفات التنمية ـ يُساعد بفضل هذا القانون على إعادة شروط الثورة نفسها ويدفع نحو تحريك الموجة الثورية الثانية ـ عربيا ـ والتي لن يطول انتظارها بحسب فيزياء الثورات وقوانينها الداخلية.
التخبط السياسي هو سيد الموقف في تونس حيث تؤكد كل المؤشرات على فشل ذريع للنظام الانقلابي بقيادة "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" في ثوبه الجديد وتَمكّنِه من إعادة الدولة العميقة إلى السطح وإمساكها بكل مقاليد السلطة التشريعية والرئاسية والحكومية. فرغم ما رُزقت به دولة العمق من غطاء إسلامي مبارك لا يكاد يُخفي أنيابها القمعية بعد أن قبلت حركة النهضة المحسوبة على الإسلام السياسي بمشاركة مُذلّة في "حكومة بن علي الجديدة " لم ينجح النظام الجديد في طمس ملامحه البوليسية. المصائب السياسية لا تخطئها العين فبعد الكوارث الدبلوماسية التي تسبب فيها وزير الخارجية اليساري مع ثوار ليبيا ومع دولة قطر ثم مع دولة تركيا تجود قريحة وزيرة السياحة ـ المطبِّعة علنا مع الكيان الصهيوني ـ بفكرة "تقطيع العلم الوطني وتوزيعه على المناطق المحرومة" عوض توزيع الثروات التي تنهبها عصابات السطو المنظم على شباب المناطق المفقّرة.
من جهة أخرى وبعيدا عن أعين المراقبين تنشط الدبلوماسية المالية والاقتصادية في بيع ما تبقى من الثروات الوطنية عبر اتفاقات الشراكة مع القوى الاقتصادية الكبرى، التي تعتبر المتحكّم الفعلي في السياسة الداخلية والخارجية لتونس. بل الأخطر من ذلك هو مجموعة القروض التي صادقت عليها "السلطات التجمعية الجديدة" وهي قروض سترهن مصير أجيال بكاملها وستدفع الدولة نحو الإفلاس ونحو الشلل التام في المستقبل المتوسط والقريب رغم قدرة هذه القروض على تنفيس الاحتقان الاقتصادي على المستوى القريب والقريب فقط. جُرع المنشطات المالية والاقتصادية هذه هي التي ستسمح بامتصاص الاحتقان الاجتماعي لفترة قصيرة تُمكّن من تركيز أركان الدولة القمعية ثم إعادة النموذج الاستبدادي على أسس أصلب. في هذا الاطار وضمن هذا التمشي تبقى حرية التعبير والتظاهر السلمي آخر العقبات التي يجب على الدولة العميقة إزاحتها لتحقيق هدف استعادة النموذج القمعي عبر سجن المدونين وإرهاب الصحفيين الأحرار وقمع المتظاهرين السلميين بحجة مقاومة الإرهاب والتطرف التي تطال اليوم غلق المساجد وطرد الأئمة من غير المواليين للنظام الانقلابي الجديد.
هنا يتنزل القانون الجديد الذي صادقت عليه " حكومة بن علي الجديدة" وهو قانون يُخفي رغم ظاهره الأخلاقي الحامي للمؤسسة الأمنية أخطر الأسلحة القمعية فتكا بالحريات الفردية والمدنية وهي أسلحة تسمح بجعل الأمنيّ ورجل البوليس فردا فوق القانون يستطيع أن يرتكب كل أنواع الجرائم القمعية دون حسيب أو رقيب بل بمباركة الجسم السياسي والتشريعي للدولة الناشئة. حجم العقوبات التي ستطال الأقلام الحرة على قلتها والتي ستشمل الصحفيين والقانونيين والنشطاء السياسيين إلى جانب غموض النص القانوني نفسه وتطرفه في تطبيق مبدأ "الجزر" كلها مؤشرات على الانتكاسة الكبيرة التي تعرفها ثورة 17 ديسمبر الخالدة خاصة على مستوى مصادرة الحريات وعودة القمع.
حادثة واحدة قادرة على أن تلخص الوعي والسلوك الأمني في تونس وقد حدثت في مدينة سوسة الساحلية عندما قام أمني بصفع محام على وجهه وعندما سأله المحامي عن سبب فعلته تأسّف الرجل قائلا : "حسبتك مواطنا عاديا". الحالة سريالية فعلا وصادمة في دلالتها وهي تلخّص العقيدة الأمنية التي تدافع عنها الدولة العميقة ممثّلة في " النقابات الأمنية المسلحة " باعتبارها أكبر خطر يهدّد الأمن القومي لتونس ويمثل رافدا غير مباشر للإرهاب والتطرف. التعذيب والاحتقار والإهانة هي العنوان المركزي للدولة القمعية ولسلوك النظام الأمني في الدول المتخلفة وهذا السلوك هو المموّل الحقيقي للإرهاب وللتطرف ولشعور العداء الحاد تجاه المؤسسة الأمنية الذي يحمله المواطن في النظام القمعي و الدولة البوليسية.
في الدولة الديمقراطية وفي النظام الجمهوري غير العربي يكون الأمن أمنا حقيقيا وفعليا وسدّا منيعا أمام الجريمة والتهريب والنهب والاعتداء على الأفراد والممتلكات وهو بذلك مانع حقيقي لكل المناخات الحاضنة للتطرف والعنف لكنه في الدولة الاستبدادية جزء أساسي من منظومة النهب والقتل وتجمُّع لعصابات السطو المنظم على ممتلكات الناس وعلى أعراضهم أيام السلم لأنهم في حالات الثورة والحرب يهرولون خارج المعركة كما حدث أيام ثورة الكرامة المباركة عندما كان القناصة والمجرمون يغتالون الشهداء واحدا واحدا من أجل عيون الرئيس الهارب وعصابته.
منطق الثورات وفيزياء الثورات المضادة ومجموعة القوانين المتحكمة في طبيعة الحركة والحركة المضادة التي تحكم المجتمعات تؤكّد استحالة العودة إلى الوراء وتقرّ بأن إعادة إنتاج دولة البوليس ونظام القمع في تونس أو في غيرها من المنطقة العربية إنما هو ضرب من العبث. إن الشعوب التي ذاقت طعم الحرية ودكّت جدار الخوف والرعب الذي بناه النظام الاستبدادي في المنطقة العربية لن تعود إلى حضيرة الطاعة أبدا بل ستحوّل كل استنساخ للنظام القديم إلى وعي بشراسة الدولة العميقة وإلى تشبث لا يلين بمطلب الحرية مهما كان الثمن خاصة بعد ضريبة الدم التي دفعتها من أجل إسقاط رأس النظام.