قضايا وآراء

القهر والإذعان الطبقي

1300x600
يقول الفيلسوف الكبير علي عزت بيجوفيتش: "ليست الصلاة مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، إنما هي أيضا انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم". 

ففي الصلاة هناك إمام واحد مقدم على الجميع باختيارهم، وله صفات محددة، ومن خلفه جميعا متساوون، فلا يوجد أفضلية لأحد، بل إن كل من الخلف له حق الرد في حالة خطأ الإمام، وتقدم الإمام ليس مطلقا، فكل المأمومين لهم حق الإمامة، واختيار الإمام منهم، وليس حقا إلهيا، ولكنه حق للمجتمع طبقا للضوابط المتجاوزة، وحتى ترتيب الصفوف لا يعتمد على معيار مادي، ولكنه يعتمد على مدى الإلمام بالمعايير المتجاوزة المتمثلة في القرآن الكريم، وهذا لا يمنع من في الصف الأخير من رد الإمام إن أخطأ.

وبالتالي، ليس هناك بناء طبقي في الصلاة، والصلاة هي عماد الإسلام، وهذا عكس كافة النماذج التعبدية، ربما في كل الأديان الأخرى، سواء الوضعية أو السماوية، فهناك دائما طبقة الكهنة الحاملين للأسرار المقدسة، وهي طبقة مميزة منفصلة لا راد لها ولا معقب عليها.

وهذا النموذج للصلاة في الإسلام يعبر عن انعدام الفواصل الصلبة بالمجتمع، فهو مجتمع يتمتع بالتراتب الاجتماعي، دون احتكار، ودون التحول لطبقة اجتماعية، فالطبقة تتميز بالانغلاق وصعوبة الاختراق، وتصنع فوارق صلبة مع باقي الطبقات، وتشعر بالتميز، وتصنع أسبابا لهذا التميز، سواء كانت عرقية أو اقتصادية أو اجتماعية. 

والمجتمع الإسلامي من خلال تفسير الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش لا يمكن أن تتكون به طبقات اجتماعية بالمفهوم الماركسي، لذا لم يتناول المفكرون الإسلاميون هذا المفهوم، وانحصرت الأفكار والمناقشات على مفهوم العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر بطرق متعددة.

والصراع الطبقي يبدأ عندما تتكون الطبقة الاجتماعية وتحاول الحفاظ على مصالحها، وعند تعارض مصالح الطبقات يبدأ الصراع، ومفهوم الصراع يحتوي ضمنا على وجود إرادة عند الطبقات المختلفة، كي يكون هناك صراع، فكل منهم يمتلك من الأدوات ومن الإرادة ما يدفعه لخوض المعركة دفاعا عن حقوقه ومصالحه.

وإذا سلمنا بحتمية وجود طبقات اجتماعية في نموذج الدولة الحديثة، فلا بد من قواعد ونظام يمنع تحول الصراع الطبقي إلى حالة من القهر الطبقي بحيث تعاني الطبقات الدنيا من القهر وتنهار قدرتها على المقاومة، وبالتالي تتحول حالة الصراع الطبقي إلى حالة من القهر الطبقي تُحوِّل الطبقات الدنيا في سلم الطبقات الاجتماعية إلى مجموعات زائدة عن حاجه المجتمع، وتظهر كأنها عبء على الطبقات الاجتماعية العليا، ولكن يبقى إحساسها بالقهر والظلم محفزا لها على المقاومة حتى دون أدوات للصراع.

ومع طول الأمد واستمرار القهر الاجتماعي تتكيف الطبقات الدنيا مع وضعها، بل وربما تتحول إلى قناعة بأن ذلك مكانها الطبيعي، ولا تجد غضاضة في أن يحتقرها الجميع، ويتحول القهر الطبقي إلى حالة من الإذعان لهذا القهر، ويختفي الإحساس بالقهر، وربما تبدأ الطبقات المقهورة في التكيف معه، وقد تتطور الحالة إلى الاستمتاع بهذا القهر أو على الأقل القبول به وتفسيره كحتميه وضرورة ومصير، و هذه حالة موجودة فعلا في الهند تتجسد في طبقة المنبوذين، وهي ترى أن ما تتعرض له من قهر وإذلال واحتقار إنما هي رغبة إلهية لا بد من احترامها والاستسلام لها.

ومصر قد نعُدّها نموذجا للتحول من حالة القهر الطبقي -أي شعور قطاع واسع بهذا القهر ووجود رغبة في مقاومته- إلى حالة الإذعان الكامل لهذا القهر من قطاع واسع أيضا، فما قاله وزير العدل المصري السابق بخصوص أولاد عمال النظافة غير المؤهلين لمنصة القضاء هو تعبير صادق عن رؤية الطبقة الحاكمة في مصر، التي استطاعت على مدى عقود من صناعة فاصل اجتماعي شديد الصلابة مع المجتمع، واستطاعت الوصول إلى مرحلة الإذعان الطبقي لقطاعات واسعة من المصريين، هو تعبير صادق عن رؤيتها لكل الطبقات التي لا تنتمي للطبقة الحاكمة وتابعيها.

إن الكثير من المصريين لو عرضت عليهم ما قاله وزير العدل السابق، سواء من الطبقة الحاكمة أو من الطبقات التي وصلت إلى مرحلة الإذعان -وهي ليست بالقليلة- لن تجدهم يعترضون على هذه المقولة، بل على العكس ربما يؤيدونها ويحزنون على الوزير الصادق الذي عبر فعلا عن حال مصر. 

ولا أدري ما هو الجديد فيما حدث، فكثير من تصريحات الطبقة الحاكمة تؤكد ذلك، بل ومن المبررات التي كان يتم تداولها بين الطبقة التي أدمنت الإذعان ضد الرئيس محمد مرسي أنه ليس من تلك الطبقة التي أصبحت في العقل الجمعي للمذعنين هي صاحبة الحق في الحكم، وأن الدكتور مرسي المنتمي للمجتمع وغير المنتمي لتلك الطبقة لا ينبغي أن يكون هناك. 

إن عبد الحميد شتا الذي انتحر عندما رفضوه في الخارجية، نظرا لوظيفة والده المتواضعة لم يفارق بعد ذاكرتنا، إن إلغاء قرار الدكتور مرسي بتعيين أوائل كليات الحقوق بالنيابة دون النظر إلى مستواهم الاجتماعي بعد الانقلاب لم يغادر ذاكرتنا أيضا، إن احتقار طبقة "الإيليت" ومعها طبقة المذعنين للرئيس مرسي ورجاله لم ننسَهُ بعد، لا زالت دموع المرأة العجوز المنسابة وهي تقبل يد إحدى الشرطيات كي تعفو عنها ماثلة في أذهاننا، وما زالت كلمات لواء الشرطة التي يقول فيها سوف نقطع يد من تمتد على أسياده يتم تداولها.

إذًا، فلا شيء جديدا في مصر، فقط لحظة تجمعت فيها أسباب عدة أدت إلى هذا الزخم حول مقولة نسمعها كل يوم ونراها بأعيننا ونلمسها بأيدينا، ولكنها الأقدار التي جعلت من الوزير وسيلة للعودة إلى الإحساس بحالة من الانتصار الزائف، وكأنه غدا سيكون ابن عامل النظافة على منصة القضاء.

لقد ازدادت سماكة وقسوة هذا الفاصل الحديدي بين الطبقة الحاكمة والمجتمع، ولن يكون ابن عامل النظافة في القضاء، ولن يلتحق أشباه عبد الحميد شتا بالخارجية، ولن تكف العجائز عن تقبيل أيدي رجال الشرطة إلا بكسر هذا الفاصل الصلب بكل قسوة، وإذا لم يحدث ذلك فعلى مفكري ومنظري ورجال دين الطبقة الحاكمة أن يبدأوا في التقنين والتشريع لطبقة منبوذي مصر، وعلى من انتصروا في معركة الوزير أن يفقدوا ذاكرتهم لحين انتحار عبد الحميد شتا مرة أخرى.  
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع