في الوقت الذي يبدأ فيه المسلم يحضِّر نفسه لشهر الصوم، يخترق جنرال الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري هذا التحضير الوجداني بكلام قاله يوم الجمعة 8 أيار/ مايو 2015، في مناسبة احتفالية في إحدى مدن محافظة سمنان شرق طهران، ويشكِّل من حيث المعنى والمغزى تأكيدا لكلام سابق لمستشار الرئيس حسن روحاني، علي يونسي حول المسح الحدودي كان أورده في تصريح يتجاوز مبدأ احترام سيادات الأوطان يوم الأحد 8 آذار/ مارس 2015 وجاء فيه: "إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية، كما كانت عبْر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليًا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي"
جغرافيا إيران والعراق غير قابلة للتجزئة، وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا، وإما أن نتحد". وقبل يونسي كان هناك تصريح للفريق يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد خامنئي (القائد السابق للحرس الثوري الإيراني) يوم السبت 4 مايو 2014، جاء فيه: "إن حدود إيران الغربية لا تقف عند شلمجة -على الحدود العراقية غرب الأهواز- بل تصل إلى جنوب لبنان، وهذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط.."..
في الكلام الجديد الذي يتوقع المرء سماع مزيد منه يقال في احتفاليات أو في خُطب صلاة الجمعة على نحو ما عوَّدنا بعض جنرالات الحرس، وبعض شيوخ الحوزات، قال اللواء جعفري في مؤتمر تكريم ذكرى ثلاثة آلاف قتيل: "إن نظام الهيمنة الغربي بات يخشى توسُّع الهلال الشيعي في المنطقة، الذي يجمع ويوحِّد المسلمين في إيران وسوريا واليمن والعراق ولبنان، ولأنه موجَّه كالسيف في قلب الكيان الصهيوني..".
وفي محاولة منه لإقناع السامعين الحاضرين وأولئك الذين هم خارج إيران، فإنه أوضح بالإيحاء كيف سيولد هذا الهلال، قائلاً حول اليمن: "يعلم الأعداء أن لإيران تأثيرا في اليمن، دون أن تقوم بتدخل مباشر فيه؛ إذ ينتفض الشعب اليمني بنفسه، ويواصل طريق الثورة الإسلامية والشهداء والشعب الإيراني العظيم ويقتدي بهم..". و"إن كل قوى العالم قد اصطفت اليوم للوقوف أمام تقدُّم ونمو الشعب اليمني، لكنها غير قادرة على ذلك، والفضل يعود إلى قوة الإسلام والثورة الإسلامية الإيرانية في نشْر أهداف الشهداء في العالم.."
وزاد منسوب الإيحاء، فقال حول سوريا والعراق: "إن إيران نظَّمت مئة ألف من القوات الشعبية المسلحة المؤيدة للنظام السوري وللثورة الإسلامية ضد المعارضة السورية، وذلك في إطار جبهة المقاومة، كما أن إيران سلَّحت مئة ألف من الشباب الثوري والمؤمن في قوات الحشد الشعبي التي قاتلت، وأوجدت رصيدًا عظيمًا للدفاع عن الإسلام والثورة الإيرانية في المنطقة.."..
ما يقصده اللواء جعفري من كلامه عدا تأكيد التدخل الإيراني بالعتاد والرجال والمال في اليمن وسوريا والعراق، والدور المماثل الذي لا يحتاج إلى تأكيد بالنسبة إلى لبنان، هو أن إيران تخطط لتطويق الخليج، وأن كلمة "الهلال الشيعي" هي في واقع الأمر طوق، ومن دون أن يستوقفها هذا الكم الهائل من الكوارث التي يتسبب بها هذا المشروع الحُلم في الدول الأربع العراق وسوريا واليمن ولبنان. وهو بتحديده تنظيم مئة ألف شخص للقتال في اليمن وسوريا، مع عدم الإشارة إلى مئة ألف من أجل لبنان، فلأن الأمر محسوم من خلال "حزب الله" عددًا وعتادًا.
قد يأخذ البعض كلام اللواء جعفري على غير محمل الجد، وعلى نحو ما حصل سابقًا مع الكلام الذي قيل باللسان الإيراني في موضوع الحدود التي تنتهي بالناقورة. لكننا نرى أن القول هو تمهيد أولي للفعل. ونجد أنفسنا نستعيد من المقتنيات الوثائقية الشخصية فقرة من كُرَّاس أصدره "حزب الله" في لبنان قبل ثلاثين سنة، وحينها كان السيد حسن نصر الله هو الثالث بين شيوخ الحزب بعد
عباس الموسوي الذي قتل، وصبحي الطفيلي الذي انشق، لأنه استبعد وجرى اختيار نصر الله أمينًا عامًا للحزب بدلاً منه.
والفقرة هي "ما يصيب المسلمين في أفغانستان أو العراق أو الفلبين أو غيرها نتحرك لمواجهته انطلاقًا من واجب شرعي أساسًا، وفي ضوء تصوُّر الفقيه القائد..".. وهذه الفقرة تفسِّر ما يقوله اللواء جعفري في شأن التدخل في بلاد الآخرين. كما تؤكد طبيعة المشروع الإيراني الذي اختصر جعفري طبيعته بأنه يكتمل بـ"الهلال الشيعي".
للثورة أن تضع مشاريع، ولقادتها أن يتسع أُفق أحلامهم. ولكن الأحلام تنتهي أحيانا كوابيس عندما لا تكون مبنية على واقعية. وهذا حصل لحُلم سابق كان بالنوعية ذاتها من حيث عدم الواقعية لحُلم "الهلال الشيعي".
ذلك الحُلم يعود إلى الأربعينات عندما أسس أنطون سعادة المهاجر إلى الولايات المتحدة حزبًا سمَّاه الحزب القومي السوري الاجتماعي. كان شعار الحزب زوبعة حمراء اللون، وكان وفق رؤية أدرجها في أدبيات بين كتابات ومؤلفات إحداها كتاب "نشوء الأمم" يدعو إلى وحدة سوريا الكبرى التي هي في مفهومه تضم سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين تُكوِّن مجتمعة وموحَّدة "الهلال الخصيب". وأدرج لهذا الهلال من باب الابتكار اللفظي جزيرة قبرص، فباتت التسمية "الهلال الخصيب ونجمته قبرص".
بسبب وطأة الاستعمار والانتداب، لقيت رؤية أنطون سعادة في لبنان ونوعًا ما في سوريا والأردن، شعبية بمثل الشعبية التي حظي بها عبد الناصر في الستينات، وفي بعض دول المنطقة ثم لقيها "حزب الله" في لبنان.
كانت الفكرة جديدة، واستهوت شرائح من جميع الطوائف على أساس أن هذه العقيدة ضد الطائفية، ولذا رأينا فيها المسلم السُني والمسلم الشيعي والمسلم الدرزي، كما رأينا المسيحي الماروني إلى جانب الأرثوذكسي إلى جانب الكاثوليكي. وهؤلاء في معظمهم كانوا في حيرة من أمر قبرص النجمة للهلال الخصيب، ثم دخلت الحركات السياسية تنتج أحزابا ترى أن الوحدة هي العربية، وليست اجتزاء بعض دول الأمة وحصْرها في "هلال خصيب" نجمته قبرص، التي هي مزيج بين ديانتَين مسيحية يونانية ومسلمة تركية، ولا أثر للعرب فيها.
بعدما رأى أنطون سعادة هذا الالتفاف حوله، وعلى نحو ما حصل لثورة الخميني، بدأ يطمع في السلطة الأعلى عن طريق السلاح وتدبير ثورة ضد النظام في لبنان. وانتهى الأمر إلى اعتقاله في دمشق، وتسليمه بموجب صفقة إلى لبنان، إذ تمت يوم الخميس 7 تموز/ يوليو 1949 محاكمة سريعة له، وإعدامه ليلاً رميًا بالرصاص في ساحة تمرين تابعة للجيش اللبناني.
انتقم محازبو أنطون سعادة أخطر انتقام له؛ إذ اغتالوا رئيس الحكومة رياض الصلح قرب مطار عمان، التي كان يزورها، وتوجه ليستقل الطائرة عائدًا إلى بيروت، ثم تناثروا وانتهى بهم الأمر إلى أنهم باتوا منذ ربع قرن يحلقون في فضاء حُكْم الأسد الابن بعد الأب، وباتوا جزءًا من الحلف الذي بدأت إيران والحرس الثوري التسويق له. والأرجح أنه سينتهي إلى ما انتهى إليه "الهلال الخصيب" مجرد حُلم في زمن لا مجال فيه لغير الواقعية وعدم الطمع، والتعاطي مع الآخرين بصيغة التدخل أو التحرش.. أو بالإخضاع حتى إذا استوجب الأمر تدمير البلاد على رأس العباد.
(نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط)