يُقال إذا شَبّ الحريق في منزلٍ، شُغل أهله به، ولا يجدون متسعا كي يلتفتوا إلى حريقٍ في قرية مجاورة.. فما بال نيران تتصاعد ألسنتها في الوطن العربي مع أزمات تعيشها بلدانه، فهل سيلتفت حينها أحد إلى "نكبة" عمرها 67 عاما؟
"
النكبة الفلسطينية" التي تحل في الـ15 من شهر أيار/ مايو كل عام، يتراجع حضورها في أذهان المواطن العربي، في مقابل أزمات متفاقمة، سرعان ما تنتقل من دولة عربية إلى أخرى.
و"النكبة" هي مصطلح يطلقه الفلسطينيون على استيلاء الصهاينة على أراض فلسطينية، أقاموا عليها يوم 14 أيار/ مايو 1948 دولة إسرائيل، وهجروا 957 ألف فلسطيني من أراضيهم إلى بقاع مختلفة من أنحاء العالم، بحسب تقدير للأمم المتحدة صدر عام 1950.
وسنويا، يحيي الفلسطينيون ذكرى هذه النكبة في 15 من أيار/ مايو من كل عام، بمسيرات احتجاجية وإقامة معارض تراثية تؤكد حق العودة، وارتباطهم بأرضهم التي رحل عنها آباؤهم وأجدادهم عام 1948.
وبدأت الأزمات العربية في السنوات الأخيرة بموجات ما يسمى بـ"
الربيع العربي" في 2011، الذي أشعلته تونس، وأعقبتها مصر وليبيا، مروراً بمراحل تحول نجحت تونس في اجتيازها، بينما تسعى القاهرة نحو إتمامها، بينما تعرقل الحالة الأمنية طرابلس.
وصولاً إلى دول مازالت تبحث عن أرضية تجمع قواها السياسية المختلفة، فهي تواجه في ذلك دوامة من العنف مثل العراق وسوريا ومؤخراً اليمن، لاسيما بعد بروز الجماعات المتشددة ومساعيها للدخول في المعادلة، مثل تنظيم الدولة بعد سيطرته على مناطق واسعة في دمشق وبغداد، ومحاولات جماعة "أنصار الله" (الحوثيون) السيطرة على اليمن، بالإضافة إلى تنظيم القاعدة الذي يضرب جذوره في الدول الثلاث.
ثلاثة خبراء سياسيين، أحدهم من مصر، والثاني من اليمن، والثالث من لبنان، اتفقوا على أن الملف الفلسطيني برمته لم يعد يحتل صدارة الأولويات لدى الأنظمة العربية، في مقابل ملفات، في مقدمتها قضايا التحول السياسي الديمقراطي والثورات التي عصفت بتلك الدول، وقضايا عربية تؤثر على الأمن العربي مثل سوريا واليمن.
واستنادا إلى ما سبق، أظهر الخبراء الثلاثة، حالة من عدم التفاؤل بموضع ذكرى "النكبة" الفلسطينية لدى المواطن العربي، الذي أصبح منشغلاً بما يواجه في دولته بشكل مباشر، فما لم يكن يتصوره في الماضي البعيد من معارك ضارية، واقتتال عنيف، أصبح يراه رؤى العين داخل حدود بلاده، فتراجعت لديه ذكرى النكبة الفلسطينية، أمام حالة حيّة يعايشها يوميا.
فيما توقع محلل سياسي فلسطيني، ألا يستمر هذا التراجع معتبراً أنه لن يدوم طويلاً، لاسيما أن الأزمات التي يواجهها الوطن العربي "مؤقتة"، بحسب وصفه.
طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ورئيس وحدة الدراسات الإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط مستقل، قال مفسرا هذا التراجع للأناضول، إن "الملف الفلسطيني أصبح درجة ثانية وثالثة في الملفات العربية، سواء على مستوى العمل الجماعي الدولي، أو اهتمام الأنظمة العربية المعنية به، وذلك لانشغال هذه الأنظمة بقضاياها الداخلية من مراحل التحول السياسي الديمقراطي ومواجهة تبعات الثورات، وعليه، فقد انشغلت الأنظمة العربية عنه".
وعن هذه الأنظمة، قال فهمي: "هي إما أنظمة لاتزال مرتبكة ولم تستكمل استحقاقاتها بأكملها مثل الحالة المصرية (يتبقى الانتخابات البرلمانية في خارطة الطريق التي تم إعلانها، عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 تموز/ يوليو 2013)، أو دول تشهد ترديا أمنيا مثل سوريا (تشهد احتجاجات منذ خمس سنوات، تحولت بعدها إلى معارك دموية بين القوات النظامية وقوات المعارضة)، والعراق (يشهد تفجيرات يومية وأعمال عنف على مدى السنوات الماضية، تزايدت حدتها مع سيطرة تنظيم الدولة على مناطق هناك).
وليبيا (تتصارع على السلطة حكومتان إلى جانب وجود تنظيم أنصار الشريعة، الذي يتبنى أعمال عنف)، واليمن (شهدت تحولات دراماتيكية بدءا من تصعيد جماعة أنصار الله التحركات المسلحة، ثم سقوط صنعاء في أيديهم واستقالة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ثم سحب الاستقالة، تبعه تضييق خناق على عدن، وقرب سقوطها الذي أوقفه التدخل السعودي، الذي قاد عملية أسماها عاصفة الحزم، بناء على طلب من هادي).
المخاوف من تقسيم هذه الدول، أصبحت المحرك لتشكيل اهتمام الدول العربية، بحسب طلال العتريسي مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بلبنان، الذي رأى أن "مخاوف الأنظمة من تقسيم سوريا والعراق واليمن، أصبح أولوية لديهم، وهو ما كان له انعكاساته على الرأي العام الذي تراجعت لديه ذكرى النكبة، التي لم تعد حاضرة لا في تغطية الإعلام ولا حتى في قرارات مصيرية تتخذها الجهات المعنية، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية".
وعن موقف تلك الجهات، قال العتريسي "هل ستجتمع الجامعة العربية لبحث حل الأزمة اليمنية المندلعة الآن أم لأجل النكبة الفلسطينية؟، هذا أمر انتهى بالنسبة لهم منذ سنوات عدة، لا يجدده سوى حدث جلل، لكن الأزمة اليمنية هي الأحدث والأخطر بالنسبة للدول العربية لأنها تهدد أمنهم القومي، وبالتالي الأولوية للتفاوض في تلك الأزمة وليس في الملف الفلسطيني".
وأضاف أن "الأولوية هي الأمن في المنطقة والاصطفاف ضد الإرهاب الداخلي والخارجي، وليس النكبة كما كان في السابق، وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين ما قبل الربيع العربي وما بعده، سنجد أن الأولوية كانت للتفاوض في الصراع العربي الفلسطيني، لكن تَرَاجعَ هذا المنطق الآن وانتقلت الأولويات لمربع آخر، ممتلئ بقضايا أخرى من بينها الفوضى والعنف والتكفير والإرهاب، وتجنب ثورات جديدة ومواجهة جماعات متشددة قائمة بالفعل".
يتقاطع مع هذه الفكرة طارق فهمي، الذي يوضح أيضاً أن عدم احتلال "النكبة الفلسطينية" صدارة الأولويات، يمتد إلى المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية على وجه الخصوص قائلاً: "لا يوجد أي اهتمام على أي مستوى دولي أيضاً بالقضية الفلسطينية، فالإدارة الأمريكية، انشغلت بقضايا كثيرة، واحتل الملف الإيراني صدارة الأولويات بدل ملف الصراع العربي الإسرائيلي، كذلك الحال بالنسبة لمجلس الأمن المعني بعقد اجتماعات حول الأزمات في الوطن العربي".
وأضاف فهمي: "إسرائيل ترفض أي سلام أو تسوية، مذكرا بموقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أثناء ترشحه في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة، في شهر آذار/ مارس الماضي، حينما صرح بأنه لن يكون هناك دولة فلسطين في عهده، وبالتالي يجب أن نسأل أنفسنا هل هناك ما يدعو إلى تغيير الأولويات لدى المجتمع الدولي والعربي وعودة الصدارة للملف الفلسطيني؟".
وكرد على هذا التساؤل، قال العتريسي "إذا بدأت تظهر حلول سياسية، أو لنقل مشاريع حلول للأزمات في اليمن وسوريا والعراق، فسيكون هناك حينها خارطة طريق تتقارب مع خارطة الطريق التفاوضية، التي يتداولها المجتمع الدولي والعربي بشان القضية الفلسطينية، وحينها سيحدث تقارب في مساحات التناول والأولوية، حتى تتصدر القضية الفلسطينية المشهد بتراجع زخم هذه الملفات".
ويعارضه في تلك النظرة التفاؤلية، محسن خصروف، الخبير الاستراتيجي والعسكري اليمني، قائلا إن "الأزمات التي تواجهها الدول العربية ستستمر في الهيمنة على اهتمامات الأنظمة العربية"، موضحاً أن الأمر أخذ في التصعيد، منذ الربيع العربي عام 2011.
وقال خصروف، وهو عميد متقاعد بالجيش: "نستطيع تتبع ما آلت إليه الأوضاع في الوطن العربي، لم يكن أحد يتصور ما حدث في اليمن مؤخراً، وقبلها سوريا والعراق، من عنف ودموية وتصفيات جسدية جماعية، فلم يكن المواطن اليمني مثلاً يرى بعينه شخصا ينتمي لتنظيم القاعدة، ويمسك السكين ويذبح آخر، وكأنه نعجة، فكيف نتخيل إذا ما ساءت الأوضاع وتصاعدت؟ هل حينها سينشغل المواطن اليمني بالذكرى في مثل هذا المشهد غير المسبوق في مخيلته؟".
وأضاف أنه "لم يكن أحد يتخيل التفجيرات الانتحارية المتبادلة في أسواق العراق الشعبية، ولا في ضواحي سوريا؛ كأن يواجه المواطن براميل متفجرة وقنابل عنقودية، أو أن يشهد المواطن اليمني قصف صنعاء، كل ذلك لن يدفع المواطن أن يفكر في ذكرى نكبة قامت أو قائمة أو ستحل عليه العام المقبل، فهو على الأقل سينشغل بقضاياه لأعوام".
وعلى الرغم مما ذهب إليه خصروف، لكن سامح شهيب أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت الفلسطينية، خالفه في الرأي، قائلاً: "هذا التراجع سيكون عابراً ولن يدم طويلاً؛ لأن الظواهر التي نشهدها في الوطن العربي نفسها لن تكون طويلة الأمد، سواء سيطرة تنظيم الدولة على مناطق بالعراق والشام، أو ما يفعله الحوثيون في اليمن، كل شيء سيعود إلى أصله، و"الخلف در" سيكون يوماً للأمام سر، لأن القضية الفلسطينية ستبقى محورية مهما أراد الآخرون غير ذلك".