لم ينس الإعلامي "
باسم يوسف"، وهو ينعى والده، أن يتوجه بالشكر لكل الشامتين؛ وذلك لأنهم – حسب قوله – أظهروا "معدنهم وتربيتهم وتدينهم". وهو ما استخدمه البعض في تبكيت
الإخوان، الذين يشمتون في الموت، ويسخرون من حال الرجل الذي حال الاستبداد السياسي الذي تعيش فيه
مصر، دون أن يشارك في تشييع جثمان والده إلى مثواه الأخير.
بادئ ذي بدء، فإنني أتقدم بخالص العزاء للدكتور "يوسف" في وفاة والده، وهو عزاء واجب، أتمنى ألا يتبعه مني أذى، فقد كانت وفاة الوالد، سبباً في أن نعرف أن "باسم" هو نجل المستشار "رأفت يوسف"، الذي تابعت أحكامه المنحازة للحريات في سنواته الأخيرة في محكمة
القضاء الإداري وقبل تقاعده، وقد احتفظت بالكثير من هذه الأحكام، التي ساهمت ضمن غيرها من الأحكام القضائية في تشكيل "وعيي القانوني"، التي كانت تتصدى لبطش السلطة، وتفضح قمعها، وهي قبل هذا وبعده تمثل اجتهاداً في فهم القانون، وتنتمي لزمن "رصانة الأحكام"، عندما كان من يكتبون حيثيات الأحكام كأنهم "يعزفون سيمفونية" رائعة!.
فالدائرة التي ترأسها المستشار "يوسف"، هي التي أصدرت الأحكام التي دشنت لمنع من يحملون جنسيات أخرى من الترشح للانتخابات النيابية، وهي التي منعت المتهربين من أداء الخدمة العسكرية من ذلك أيضاً، ولأن هناك حكماً أصدرته دائرة أخرى قبل سنوات يبيح الترشح للهاربين من الجندية، فقد أحيل الأمر إلى دائرة "توحيد المبادئ"، التي أخذت بحكم دائرة المستشار "رأفت يوسف"، وأهملت الحكم الآخر، الذي صدر لصالح نائب الحزب الوطني الذي اشتهر إعلامياً بالنائب الأنثى، والذي تم ضبطه بالتهرب من التجنيد، لأنه دون في شهادة ميلاده بجانب النوع: "أنثى"، وكان الحكم الذي صدر يفيد أن دفع الغرامة المالية للمتهربين بعد بلوغهم الثلاثين سنة، يمثل إعفاء قانونياً لا يحرم الحاصل عليه من حقوقه في الترشح للانتخابات العامة!
وهذا الحكم، أحدث أزمة داخل الحزب الوطني الحاكم، لأن كثيرا من قياداته التاريخيين ونوابه، ووجهائه في الريف، متهربون من أداء الخدمة العسكرية!.
كما أن الحكم بالحرمان من الترشح للحاصل على جنسية أخرى كان في مواجهة رجل الأعمال "رامي لكح"، عندما كان على "حجر النظام"، وإذ كنت قد كتبت كثيراً عن مقاولات مستشفيات اليوم الواحد، التي منحتها له وزارة الصحة بالأمر المباشر، فقد حكى لي الوزير الدكتور إسماعيل سلام، كيف أنه كان مع وفد الرئيس عندما رأى "رامي" في أحد المواقع ففوجئ بالرئيس يناديه من على بعد باسمه، وعندما جاء إليه سأله عن أخبار شقيقه "ميشيل"، في رسالة لا تخطئ العين دلالتها؛ فقد أراد الوزير أن يحيطني علماً بأنه ليس هو من يتبنى "رامي"، ولكنه الرئيس حسني مبارك!
لكن، حدث بعد ذلك ما جعل "الآلهة" يغضبون على "رامي لكح"، ولذلك قصة مثيرة لا يتسع لها المجال. فتذكر القوم الأحكام المتواترة التي قضت بعدم جواز ترشحه، وأحد هذه الأحكام قال إنه لم يكتسب العضوية ابتداء، وتقرر التخلص منه ليعيش بين باريس ولندن، وهو من كان الحزب الوطني قد أبعد من أجله النائب القديم عن الدائرة وأحد قياداته التاريخية عبد الأحد جمال الدين ليعتمد رامي مرشحاً له!
هل أذيع سراً إذا قلت، أنني من أخبرت "أستاذ القانون" عبد الأحد جمال الدين بحكم سابق يختص بالجنسية كان متعلقاً بقضية "النائب الألماني"، فأرسل من مكتبه رسولاً إلى مكتبي ليحصل على نسخة منه، إعتمد عليها في مواجهة منافسه "رامي". لكن تظل قيمة المستشار "رأفت يوسف"، في أنه أسس تأسيساً قانونياً وبلاغياً جباراً في كيف أن الجنسية المصرية تتأذى من الشراكة مع جنسيات أخرى، ثم إن حكمه كان في مواجهة أحد مراكز القوى الذي أفسح له أهل الحكم الطريق إلى البرلمان!
ولم يكن هذا هو الحكم الأهم للمستشار "رأفت يوسف"، فهو أول من أصدر الأحكام الأولى وقبل تقاعده بعودة جريدة "الشعب"، وكان يتبنى عضو اليمين في دائرته المستشار "مجدي العجاتي"، وقيل إنه أوكل إليه مهمة كتابة الحكم، الذي أسس لحرية إصدار الصحف، وغل يد الجهة الإدارية عن التصرف بالوقف أو المصادرة أو إلغاء الترخيص، كما أنه من أكد رئاسة إبراهيم شكري لحزب العمل.. بطبيعة الحال قبل أن ينتدب "العجاتي" بعد ذلك بسنوات لوزارة الداخلية في عهد "حبيب العادلي"!
ولم يكن من يقف وراء قرار تجميد حزب "العمل" وإغلاق صحيفته "الشعب" أحد الوزراء، بل كان "مبارك" نفسه الذي انزعج لقدرة صحيفة على إخراج مظاهرة فيما عرف بفتنة "وليمة لأعشاب البحر"، وكانت لديه حساسية شديدة من المظاهرات منذ انتفاضة الخبز في يناير 1977، التي كادت أن تطيح بالسادات لولا انحياز الجيش للشرعية.
قيمة هذه الأحكام الشجاعة أن الرجل أصدرها بينما كان يلملم أوراقه استعداداً لخروجه على المعاش، غير طامع في رضا السلطة، أو ساعياً لمنصب تنفيذي في بلاطها.
وقد أسفت بعد ذلك عندما علمت، أن المستشار "رأفت يوسف" وبعد خمسة عشر عاماً من إحالته للمعاش أيد "عبد الفتاح السيسي" وخرج مبشراً بدستوره. وهذا ليس موضوعنا!
فالموضوع أن من المفارقات ذات الدلالة في الأسبوع الماضي، أن يجمع بين "باسم يوسف"، الذي أيد الانقلاب العسكري في 3 يوليو وشارك في تمهيد الأجواء له، وبين أعداء هذا الانقلاب منذ اليوم الأول، الهم المشترك، فقد حرم وهو "المهاجر" في الولايات المتحدة الأمريكية من التمكن من العودة والمشاركة في تشييع جثمان الوالد، وتقبل العزاء فيه، وهو يرى أن والدته كانت محظوظة لأنها ماتت ولم تعش لترى ابنها وقد غادر "البلد"، ولا يستطيع أن يرجع "إليها" مرة أخرى!
فهناك الآلاف من هم حالهم كحال "باسم"، قد فقدوا ذويهم دون أن يتمكنوا من أن يلقوا عليهم نظرة الوداع؛ لأن الانقلاب أجبرهم على الهجرة، وهو أفضل حالاً من الآلاف من المطاردين الذين فقدوا وظائفهم ويعيشون عالة على أقربائهم في الخارج!
المفارقة الثانية كانت في قفص المحكمة التي عقدت لمحاكمة من اتهموا بإهانة القضاء، وقد جمعت "وجبة كباب" بين "علاء عبد الفتاح" وهو من أيد الانقلاب في البداية، والدكتور "محمد البلتاجي" و"عصام سلطان" وهما من ضحايا هذا الانقلاب!
وكأنه قدر ثوار يناير على اختلاف توجهاتهم أنه كما جمعهم "ميدان التحرير" يجمعهم الآن مصير مشترك، في الغربة وفي القفص، بعد أن ظنوا أنه يمكن أن يتبادلوا المواقع فيخرج هؤلاء من السلطة ويدخل هؤلاء، ولم يعلم هؤلاء وهؤلاء أنهم ليسوا أكثر من ضحايا، وأنهم في الأولى والثانية لم يكونوا أكثر من ألعوبة في يد الجاني الحقيقي، وهو العسكري المتمرد عبد الفتاح السيسسي، الذي مشى بينهم بالنميمة، ولا ريب فهو صنيعة خصمهم "مبارك" ويدفعون الآن ثمن أنهم ظنوا أن الحداية يمكن أن "تحدف كتاكيت"، وأن المخلوع يمكن أن يقدم للأمة شخصاً يمتلك جينات الوطنية والثورة والحرية التي يفتقدها "مبارك" نفسه!
والغريب أن "باسم" انزعج لتعليق هنا وهناك كانت الشماتة بداية فيهما، فظن من فوره أن أصحابها من الإخوان، وهي ذات نظرة حلفائه السابقين من العسكر، فكل من ضدهم هو من الإخوان أو من خلاياهم النائمة، وعليه رأى "باسم يوسف" أن هؤلاء الشامتين أظهروا معدنهم وتربيتهم و"تدينهم"!
ولعلي الآن أكشف له عن سر خطير، وهو أنه ليس كل الذين كانوا في "
رابعة" من الإخوان أو الإسلاميين، وليسوا كل من هم ضد حكم العسكر وينحازون لقضية الشرعية جميعهم من الإخوان أو المتدينين، فهم طرائق قددا، ليس على مستوى النخبة فقط، ولكن على مستوى العامة أيضاً، ومن الآخرين من هم أكثر شراسة من الإخوان في التعامل، ليس فقط مع الخصوم بل مع من يقفون من أول يوم لوقوع الانقلاب على "خط النار"، لمجرد أن قال رأياً رأى فيه هؤلاء أنه تراجع عن خط الثورة، أو انبطاح!
ثم تعالّي..
من يا "باسم" كان سبباً في كل ما جرى؟ لقد كنت أنت للأسف من الذين كان كل هدفهم "استهياف الرئيس المنتخب"، ضمن منظومة إعلامية اشتركت فيها مع فلول عهد مبارك، فأضعتم الثورة، وأعدتم نظام مبارك، وكنتم غطاء لكل المجازر التي ارتكبت يا باسم..
تلوم أماً فقدت ابنها، بالقتل أو بالسجن، لأنها شمتت، ولم تكن هي التي صدمت الوالد بسيارتها فتسببت في موته، أو حملتك على الهجرة قسراً، بينما أنت كنت شريكاً في قتل ابنها أو سجنه؟!
تريد من أب أن يتعاطف معك في مصابك، وأنت من كنت تقف مع الظالمين الذين قتلوا نور عينيه في "عز الظهر"، دون شفقة أو رحمة؟!
هل شاهدت يا "باسم" صورة هذا الطفل وهو يبكي أمه الشهيدة في "رابعة" ويحثها على النهوض، فربما ترق لحاله وتنهض معه ولا يصدق الطفل، لأنه طفل، أن الموتى لا يعودون يا "باسم"!
ألم تكن مع الذين قتلوا أمه ورقصت يوم الفض على الأشلاء؟
أين كان معدنكم، وأين كانت تربيتكم، وأين كان تدينكم، بل وأين كانت إنسانيتكم، وأين قلوبكم التي قست في هذا اليوم حتى صارت كالحجارة بل أشد قسوة.
من كان سبباً في مصيري ومصيرك، وأنا من دافعت عنك مخافة أن يغدر الرئيس مرسي بقيم ثورة يناير فينال من حريتك، فإذا به يثبت أنه أكثر إيمانا منا نحن الليبراليين بهذه الحرية فجعل سقفها السماء.. فمن السبب في أنها لامست الأرض قبل أن تختفي من دنيا المصريين؟
باسم..
اللهم لا شماتة، ولكن عظة وتذكيرا.
azouz1966@gmail.com