"لأول مرة تتعرض جماعة الإخوان السلمين لهذا القدر من التباين في الرؤى والأفكار داخلها مع عدم القدرة على حسمه وخصوصا على مستويات عميقة، شملت قطاعات رأسية وأفقية داخل الجماعة.
فمن الذين يحاولون عقلنة المعركة واختيار الانسحاب مع تحسين شروطه إلى الذين يصممون أن تكون ثورة كاملة حتى النهاية. ومن الذين يرون أن سلمية الثورة ضمانة نجاحها إلى الذين يرون وجوب إعلان الجهاد المسلح لاسترداد الحقوق وتحقيق القصاص في حين أن خط الجماعة العام نفسه يبدوا مترددا بين هذه المسارات الأربعة. وفي التوقيت الذي يخرج فيه الدكتور غزلان ليعلن أن السلمية من ثوابت الجماعة التي لا ينبغي أن يشوبها شائبة تكدر صفوها نرى المتحدث الإعلامي يدعو للثأر واجتثاث الرؤوس، وشباب الجماعة يهللون لكل عملية تقوم بها مجموعة هنا أو هناك.
وفي الوقت الذي يتم فيه تغذية الصف بمعاني المفاصلة الإيمانية اللازمة للمعركة مع الجاهلية في صورها المختلفة مع توضيح موقف الغرب من الحرب على الإسلام وأهله، نرى السفر المكوكي لعدد من القيادات نحو المؤسسات والدول الغربية، ما جعل الكثير من أبناء الصف يعاني حالة من الحيرة ويتأثر جداً بضغط الأحداث وتلاعبات الخصوم ويعلن عن شعوره في انفعالات يجانبها الرشد أحياناً كالسخرية اللاذعة مثلاً .
والأزمة هنا ليست في تنوع المسارات وإنما في كونها لا تبدوا مسارات عمل نهائية قائمة على اختيارات واضحة فضلاً أنها تفتقد أي تكامل أو انسجام بينها مما أنتج خليطاً من التكتيكات المتنافرة التي جعلت الشك في جدواها عملياً يتصاعد وخصوصاً مع الخطوات الواسعة التي يعتمدها النظام لتثبيت أركان حكمه يوماً بعد يوماً في ظل استمرار الاستنزاف الهائل للصف المعارض له .
ونتيجة لذلك فإن الأمر يبدو وكأنه لا اختيار معتمد أصلاً بشكل واضح قد تَوافق عليه قادة الجماعة وأعلنوه في وضوح للصف أو في وجود أكتر من رؤية يتم تغذية الصف بها في ذات الوقت مما قد يكون دلالة على عدة أمور، منها أن معركة ما تدور في عالم الأفكار بين جناحين داخل الجماعة ولو حاولنا تجاهل هذا التحليل فلا يعود أمانا إلى إرجاع الأزمة إلى آلية الاختيار ومنهجيته داخل الجماعة والتي تجعل من حسم الاختيارات الفارقة أمراً صعباً .
وبالتي يصبح من الواجب تغيير نوعية الأسئلة المتعلقة بالمرحلة وتحويلها إلى أسئلة أكثر تأسيسية فنواجه أنفسنا مباشرة: هل أزمتنا الحقيقية ترجع إلى اختيار مسار دون الأخر أم إلى آلية الاختيار نفسها ؟! وهل الآلية وحدها هي المشكلة أم تتجاوزه إلى من عليه أن يختار ؟!
جماعة كجماعة الإخوان المسلمين كان ليظن متابعوها قبل انكشافها الأخير بعد الانقلاب العسكري أنها تمتلك ترسانة من المؤسسات المحترفة التي تدعم عملية اتخاذ القرار وتقوم بتحليل ودراسة المعلومات وإعداد الخطط والرؤى كأي مؤسسة تحاول أن تجد لنفسها موطأ قدم في أي مجال من المجالات فضلاً عن أن تحلم بأستاذية العالم وتعلن ذلك !!
كانت الفاجعة أن أي من هذا غير حقيقي وأن الجماعة متأخرة مؤسساتيا بشكل مرعب عن خصومها الذين تدعمهم أفضل المراكز للوصول لأفضل القرارات مما جعل حسم المعركة علي مستوى الاختيارات النهائية سريعا وسهلا لصالح الخصم الذي استطاع أن يحقق هدفاً معروف توقيته سلفاً.
وبالتالي يتبين لنا أن الأزمة ليست في الانسياق خلف خيار من هذه الخيارات بقدر ما هي كيف يجب أن تختار وكيف يمكن للخيارات المختلفة أن تتكامل بنسب يجب أن تحددها وتضبطها دراسات محترفة يقوم بها متخصصون مؤهلون في عشرات المجالات الفنية الدقيقة للنجاة من شراك الخصم والخروج من معادلاته التي يفرضها ليجبرك علي الاختيار بين السيئ والأسوأ وامتلاك زمام المبادرة من جديد بما يتناسب مع التضحيات الهائلة التي يشهدها الميدان ؟!
الجماعة التي لا زالت تعتمد على اللجان بدل من المؤسسات المحترفة من الطبيعي أن يكون انتصارها محل شك مهما بلغت صلابة صفها أو عظمة تضحياتها، بل قد يتطور الأمر إلى اختيارات كارثية تجعل مجرد البقاء فضلاً عن الانتصار محل شك أيضاً .