أفرزت الأحداث الأخيرة التي شهدها
العراق الكثير من الخطط الواضحة والصريحة لعملية التغيير الديمغرافي المدروسة التي تمارسها الحكومات الطائفية المتلاحقة بعد 2003 في المدن والمحافظات السنية، فيما يمارس الأكراد دورا آخر لهذا التغيير من خلال السيطرة على بعض المناطق التي كانت خاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث يسمح الأكراد للعائلات الكردية النازحة بالعودة الى مدنهم وقراهم، في حين يتم منع العائلات العربية النازحة من العودة إلى مناطقها.
وبينت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها صدر مؤخرا أن قوات البيشمركة الكردية منعت بعض العرب الذين نزحوا جراء أعمال العنف من العودة إلى مناطق في العراق متنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد.
وحذرت المنظمة ومقرها نيويورك حكومة الإقليم من فرض "عقاب جماعي على مجموعات عربية بكاملها" بسبب أعمال عنف ارتكبها أعضاء من تنظيم ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي يسيطر على مساحات واسعة في شمال العراق.
وقالت ليتا تايلر الخبيرة في "هيومن رايتس ووتش" إن "عدم السماح للسكان العرب بالعودة إلى منازلهم هو على ما يبدو أكثر من اجراء أمني معقول".
وبحسب التقرير، فإن القوات الكردية تمنع منذ أشهر السكان العرب الذين نزحوا إثر الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية في حزيران/يونيو من العودة إلى منازلهم في مناطق متنازع عليها. في المقابل تمكن الأكراد من العودة إلى المناطق نفسها، وفي بعض الحالات سمح لهم بالاستقرار في منازل تخص السكان العرب النازحين، بحسب ما أكدت "هيومن رايتس ووتش". وقالت المنظمة إنها وثقت "أعمالا تنطوي على تمييز كما يبدو" في محافظتي نينوى واربيل.
أما التغيير الديمغرافي الذي تمارسه الحكومة الطائفية في العراق فقد تمثل في عدة اتجاهات، منها تغيير واقع الحزام الأمني لبغداد حيث يسكن حول بغداد سكانها من أبناء المكون السني، ومنذ 2003 إلى الآن تمارس الحكومات المتعاقبة سياسة التغيير الممنهج لهذا الحزام من خلال التهجير والقتل والإعتقال لأبناء هذه المناطق.
وتشير تقارير عن مسؤولين أمنيين رفضوا الكشف عن اسمائهم، بخصوص الاعتقالات بين أبناء المكون السني عن أن الفئة الأكبر من المعتقلين خلال العمليات الأمنية التي جرت في السنوات السابقة هم من سكان مناطق حزام بغداد، وأنهم يشكلون 80% من مجموع المعتقلين.
أما الشكل الآخر لهذا التغيير ممثلا بالاعتقلات على الهوية وعلى الأسماء مما دفع الكثير من أبناء سنة العراق إلى تغيير اسمائهم بل وحتى في أحيان كثيرة إلى تغيير القابهم خوفا من تلك الاعتقالات.
وتشير مصادر حكومية إلى أن "تغيير الأسماء ورد كثيرا خلال الفترة الأخيرة، بعد أن ينشر المواطن إعلانا في إحدى الصحف المحلية، وأن هناك أسبابا خاصة للذين يغيرون أسماؤهم لا يمكن الإفصاح عنها بشكل دقيق".
وأضاف المصدر أن "أغلب الأسماء التي تم تغييرها تحمل مدلولات طائفية ومذهبية، وتُبدل هذه الأسماء بأخرى غير إسلامية أو غير دالة على انتمائه الطائفي والمذهبي، وأغلب تلك الأسماء تحمل اسم أبو بكر، عمر، عثمان، سفيان، عائشة، وتقديم طلبات إلى المحاكم بخصوص تغييرها".
وشهدت المدن السنية تغييرا ديمغرافيا تم من خلال مجازر وجرائم متعددة ارتكبت من قبل ما يسمى الحشد الشعبي والمليشيات التي تشرف عليها إيران بشكل مباشر، وقد بين ذلك معهد واشنطن للدراسات وقال إن عدد المليشيات التي شكلتها إيران في العراق وسوريا يصل لأكثر من 50 تنظيما، حيث تدعي إيران أنهم يتدربون ويقاتلون ضد تنظيم الدولة، ولكنهم يقومون بارتكاب الجرائم ضد أبناء المدن السنية في العراق بعد دخولهم لتلك المدن ويمنعون النازحين من العودة إلى مدنهم بعد توقف القتال وبالذات في حزام بغداد وحول سامراء وبيجي والدور وضواحي مدينة تكريت.
ويبين الباحث الأكاديمي في جامعة الأنبار مؤيد جبير في تصريح خاص لـ"
عربي21" أن "النزوح والتهجير الممنهج له أثره الكبير على التغيير الديمغرافي الذي يشهده العراق حاليا، فهناك مناطق كثيرة في العراق تجري عليها عمليات تغيير ديمغرافي من خلال هجرة أو نزوح أهلها عنها، وعدم تمكنهم من العودة اليها".
ويتابع: "مثلا في حزام بغداد تمنع المليشيات أكثرية العائلات من العودة لحد الآن بعد مرور أكثر من سنة على طرد داعش منها، حيث بدأت اكثرية تلك العائلات في التفكير بالهجرة النهائية منها وبيع منازلهم وأراضيهم إلى غير رجعة، وتجري الآن فعليا عمليات شراء واسعة من قبل ملاك شيعة لمنازل وأراضي النازحين والمهجرين
السنة".
ويقول جبير إنه في ديالى وحزام بغداد يجري الآن عمليات بناء حسينات بشكل كبير، وهذه الحسينيات ستشجع
الشيعة على البناء والاستقرار في المناطق التي تبنى فيها، على حد تعبيره.
وتشير التقارير أيضا إلى أن العديد من العائلات العربية السنية تم منعها من العودة إلى قضاء المقدادية في محافظة ديالى، إذ لم يعد من أهالي قرى المقدادية سوى 10 قرى من مجموع 40 قرية، وفي قضاء العظيم الذي حرر منذ أكثر من سبعة أشهر لم يعد سكانه إلى منازلهم حتى الآن.
ويختم مؤيد جبير تصريحه لــ"
عربي21" بالقول "إن تقسيم العراق إلى أقاليم يمثل حلا لإدارة الصراع، ويسهم بشكل كبير في تقليل حجم التغيير الديمغرافي ولكنه لا يمنعه تماما في كثير من المناطق، إلا أنه يظل الخيار الأهم بالنسبة للعرب السنة لأنه يوفر لهم الحماية الأمنية الكافية للحفاظ على وجودهم الإثني وإعادة بعض من التوازن مع الشيعة والكورد".