يبدو أن قطار
الثورات العربية الذي يسير بصعوبة في الآونة الأخيرة، يحتاج لتأملات تواكب المسيرة في محاولة نقدية لقراءة عوامل الفشل الداخلي ومسبباتها أو النجاح ومقوماته، غير متناسين أن التغيير صيرورة تحتاج لوقت، وأن ما حدث في ربيع 2011 لا يمكن أن ينضب وأن شرارة التحرر من الظلم قد بدأت، وإن كانت المسيرة يتخللها صعوبات.
كان السؤال الدائم هل أخطأ المشاركون والصانعون للثورة المصرية أو
الثورة اليمنية، كما هو الحال بمقدار متفاوت مع الثورات الأخرى، في تعاطيهم مع الثورة، وما تبعها من أحداث، وهنا سأركز على الثورات التي نجحت في اسقاط رأس النظام، والتي انحصرت المعادلة في تعاطيها بعد نجاحها في إسقاط رأس النظام بين خيارين للتعامل مع أركانها؛ الأول ينادي بالمحاكم الثورية والحسم الثوري، وآخر ينتهج الإصلاح المتدرج، نموذجان متناقضان تحت نفس المسمى– التعامل الثوري-، وإن كانت الحالة الأخيرة يمكن أن تسمى في بعض الأحيان نوعا من الثورة الناعمة.
ودون الاسهاب في المسميات والأسماء ومباشرة نحو جوهر إدعائي في هذا السياق، أقول أن الثورات التي أرادت استخدام الحسم الثوري والمحاكم الثورية لم ولن تنجح ما لم يكن هناك إجماع ثوري من قبل الثوّار بمختلف انتماءاتهم الفكرية في اتخاذ هذا القرار مستندين لقاعدة شعبية مشبعة ومؤمنة بقيم الثورة، تكمن الحاجة لهذا النوع من الثورات أو التعامل الثوري في الحالات التي تكون فيها الثورة قاسمة، وتحاول استبدال كل عناصر الدولة التي تغوّلت في مناحي الحياة.
خيار الحل الثوري المتمثل في المحاكمات الثورية والقصاص والاقصاء السياسي والتغيير الكبير لمن كان في سدة الحكم وأركان دولتهم العميقة، يشوبه بعض السلبيات إلى جانب الايجابيات المتمثلة بقطع أركان الدولة العميقة والقضاء عليها، يكمن الخطر في أن يصبح نوع من الانتقام السياسي والخلاف السياسي البعيد عن معاني المحاكمة العادلة واجهاضه للقيم الثورية التي طالب فيها الناس من الحرية والكرامة والعدل، ويمكن تجنب ذلك بقدر معين بوجود حالة إجماع سياسي بين فئات الشعب، وأن تكون هذه الخطوة قبل انخماد جذوة ذروة العمل الثوري.
وإذا حاولنا إسقاط هذا الأمر على مصر لرأينا أن هذا الأمر لم يحدث لانفضاض هذا الاجماع الثوري، ولوجود تفضيل لرؤية اصلاحية مغايرة لهذا التوجه.
يقع في القطب الآخر الرؤية الاصلاحية التي تحاول الإصلاح والتدرج الثوري (إن صحة تسميته كذلك)، بحيث يكون التغيير غير دراميتكي إنما من خلال تدرج، هذا التوجه يكون ناجحا إذا ما رافقه قاعدة شعبية قوية، وشعور بالتغيير ناهيك عن وجود بيئة شعبية وحكومية (متمثلة بمن تبقى من أركان النظام القديم) ترضى بقواعد اللعبة أو شعور أركان النظام السابق بانحصار قوتهم أمام النظام الجديد لكن في المقابل تكمن السلبية في التأخر في النتائج ناهيك من الخوف من أركان النظام القديم، ومن انتفعوا منه ومع شعورهم بعودة القوة ليدهم بأن يقوموا بالانقضاض من جديد على السلطة.. نموذج الإصلاح هذا نجح به أردوغان في تركيا وفشل به سابقوه، ونجح بقدر معين في ثورات وسياقات أخرى في أوروبا في أزمنة مختلفة.
وأما محاولة إمساك العصا من الوسط من خلال اعتماد الحل الثوري بعد انفضاض الاجماع الثوري وتحول البلاد لمنافسة انتخابية فيها رابحون وخاسرون، وغياب أو أقل عدم اكتمال ثقافة الديموقراطية والشورى، وقبول الآخر في صفوف الشعب، فهذا هو الحال الذي يجعل من أطراف الثورة أصدقاء الميدان (وإن كان بغير حق وبدون بصيرة وينم عن عدم صدق في طرحهم وشعاراتهم الديموقراطية)، متحاربين ويرون بالحل الثوري –وإن كان صادقا- يرونه نوع من الانتقام السياسي، مما يجعلهم يتحالفون لإسقاط شركائهم في الثورة سابقا حتى لو مع الشيطان، وبدون انضباط بقواعد اللعبة التي نادوا بها.. وهذا ما حدث في مصر.
المعادلة والوصفة الناجحة تكمن في وجود أو على الأقل محاولة التعامل مع عنصران أساسيان هما حال الاجماع الثوري، وحال ثقافة الديمقراطية والحرية والشورى والعدل، وترسخها في عقول الشعوب غير متناسين الظروف الاجتماعية التي تحد من تبنى هذه القيم والتشبث بها.
كل هذا لا يتم إلا من خلال قراءة سليمة وموضوعية للساحة السياسية المحلية في الدول التي تمر في الثورات أو
التحولات السياسية، وتقدير سليم لقوة الدولة العميقة وقوة وتماسك الثورة وثقافة التغيير والثقة المتبادلة، وهذا ليس بالأمر السهل في ظل دول عاتية في تعميق دولة الاستبداد والاستحواذ السياسي.