كتب عبد الله السناوي: أمام موجة عنف جديدة مرشحة للتمدد وتواصل الضربات باتساع الإقليم كله فإن أسئلة الدولة المأزومة تتصدر غيرها من الأسئلة.
في يوم واحد استهدف الإرهاب بلدين عربيين أحدهما على خليجه القلق والآخر في مغربه المضطرب.
لم يكن التزامن بين عمليتي الكويت وتونس محض مصادفة.
استهداف السياحة
التونسية يؤشر إلى ضربات محتملة للسياحة
المصرية.
مشاهد التقتيل الجماعي للسياح الأجانب في تونس كادت تتعرض له مصر بالقرب من معبد الكرنك في الأقصر.
رغم الترويع والدماء فالهدف يتجاوز السياح الأجانب إلى تقويض الاقتصاد ودفع الدولة إلى العجز عن أداء وظائفها الأساسية أو أن تكون فاشلة تتفكك مؤسساتها.
وهذه هي البيئة التي تلائم الإرهاب وتمكنه مما يطلب من أهداف.
تحدي الدولة وجودي في تونس والأمر ذاته هنا في مصر.
في الكويت الظروف السياسية والاجتماعية تختلف تماما غير أن الهدف واحد وهو إثبات عجز الدولة تمهيدا لتصعيدات تالية تمتد إلى مناطق أخرى في الخليج.
بقدر استقرار مصر فإنه يمكن للخليج التعويل عليها.
المعنى أن الاستثمار السياسي قبل الاستثمار الاقتصادي.
نقطة البدء الصحيحة في مواجهة أي أخطار محتملة أن تكون الأوضاع الداخلية أكثر تماسكا.
لا تكفي أحاديث الاصطفاف الوطني من وقت لآخر والتعبئة الإعلامية الزائدة عن كل حاجة حتى تضطلع الدولة بأدوارها.
مشكلة هذا البلد الآن أنه يقف شبه عاجز لا يعرف أين يقف ولا إلى أين يتجه، تحاصره الأزمات دون أن يكون لديه دليل عمل يثير الآمال ويلهم التضحيات.
مفهوم الدولة نفسه مأزوم.
أي دولة نريدها بعد ثورتين؟
أي دولة تقدر على مواجهة الإرهاب وحروبه الضارية؟
وأي دولة تكون قابلة للحياة والتطور في عصور جديدة؟
بجملة واحدة: لا يمكن الادعاء أن لدينا دولة مدنية ديمقراطية حديثة على ما طلبت (30) يونيو.
نحن بعيدون تماما عن هذا الطلب الشعبي الذي سجله دستور (2014).
فأشباح الدولة البوليسية حاضرة على المشهد، وهذه ردة للخلف لم تتعلم شيئا من الدروس القاسية.
إهدار القيم الدستورية في إدارة الدولة ينذر بغياب أية قواعد حديثة، وهذه ردة أخرى لا تحتمل للبناء الوطني كله.
إعادة بناء الدول ليست من المهام السهلة.
لا يشك أحد في هذه الحقيقة.
كل ما هو مطلوب أن تكون الوجهة واضحة.
غير أنه لا يمكن الزعم أن هناك أي وجهة أو أن لدينا أية بوصلة تمكنا من مواصلة السير بأمان.
الدول الحديثة ليست قبائل وعوائل وأسر، وأي كلام من مثل هذا النوع انقلاب على أي مدنية مفترضة للدولة.
في أية دولة دستورية فإن الاختلاف طبيعي في وجهات النظر والتقديرات السياسية فضلا عن أنه من مقومات أي اصطفاف وطني بوجه الإرهاب.
الاصطفاف يصنعه التنوع لا القهر وتصوغه دولة العدالة لا دولة الأمن.
أيا كانت النوايا فإن وصف أية لقاءات سياسية أو اجتماعية بأنها لـ«الأسرة المصرية» على النحو الذي وصفت به دعوة إفطار رئاسية خطأ فادح بحق الرئيس والدستور والعصر والثورة وأية قيمة في هذا البلد.
في المفهوم ذاته عودة إلى أحاديث «العائلة» و«رب العائلة» و«الخروج عن تقاليد العائلة» و«قانون العيب» التي شاعت في سنوات الرئيس الأسبق «أنور السادات».
كأي رئيس منتخب آخر فهو يخضع للدستور لا الأعراف، يرأس دولة لها مؤسساتها، يؤيد ويعارض تبعا لما ينتهجه من سياسات.
الضجر بالاختلاف خطأ دستوري وسياسي يسحب من انتساب الدولة إلى أي معنى حديث.
تأكيد معنى الدولة أكثر من ضروري في الحرب مع الإرهاب.
إذا لم تحكم بالدستور فإنها قبيلة على أفضل الافتراضات وإذا تنكرت لعصرها فإنها أقرب إلى ديناصورات محكوم عليها بالانقراض.
في حروب الإرهاب القبائل تعجز عن حسمها والديناصورات لا تقدر على كسبها.
طبائع الدول من أسباب قوتها وضعفها.
الدولة البوليسية عبء لا يحتمل في الحرب مع الإرهاب فالغطاء الشعبي لا يمكن الوثوق به إذا لم تصن كرامات الناس ويعتدل ميزان العدالة.
بعبارة أخرى فإن تأخر إصلاح الجهاز الأمني ثغرة هائلة يمر منها الإرهاب قبل أن يضرب.
الفراغ السياسي تهديد مباشر آخر لبنية الدولة، فهو يحيلها لتجويف تمرح فيه أشباح الماضي ومخاوفه.
أشباح الماضي تنزع الشرعية عن الحاضر وتضفي على العنف شرعية لا يستحقها.
إذا لم تغلق صفحة الماضي وتبدأ مصر صفحة جديدة فإن العواقب سوف تكون وخيمة وبأكثر من أي توقع.
التوجه الرئاسي للعفو عن الشباب المحكومين وفق قانون التظاهر، وهو يناقض النص الدستوري، إيجابي بذاته يخفض من ناحية منسوب القلق العام على صورة الدولة ومستقبلها ويفسح المجال من ناحية أخرى لاصطفاف وطني أكثر تماسكا.
بحسب معلومات شبه مؤكدة فإن هناك قائمة إفراجات قد تصدر في عيد الفطر
المبارك عن محكومين من بينهم «فتيات الاتحادية» و«محمد عراقي» المتهم بمحاولة قلب نظام حكم الرئيس المعزول «محمد مرسي»!
الإفراجات المتوقعة تشير إلى خطوة رمزية باتجاه «دولة يناير» مقصودا بها دولة الدستور.
غير أنه في التوقيت نفسه تتبدى إشارات مضادة عن ملاحقة محتملة لأعداد كبيرة من وجوه «يناير» في قضية غامضة تحمل اسم «250 طوارئ» كأنها تصفية حساب على فعل الثورة نفسه إذ إن الذين تقدموا بها ينتسبون إلى «أبناء مبارك».
رمزية القضية تطعن في شرعية الحاضر وتضعه في وضع بالغ الحرج أمام مجتمعه وعالمه.
كل شيء بعدها سوف ينقلب رأسا على عقب في هذا البلد المنهك.
لا يكفي من وقت لآخر أن يؤكد الرئيس أنه لا عودة للوراء.
الفجوة الهائلة بين التعهدات والسياسات لا تردمها إلا تصورات واضحة وانحيازات معلنة.
بوضوح كامل لا يمكن بأي حال أن تستمر الأوضاع الحالية على ما هي عليه، الدولة لم تستكمل مؤسساتها والنظام الجديد لم يعلن عن خياراته ورجاله والتصورات غائبة والسياسة منحاه والدستور معلق.
بحسب ما هو متاح من معلومات فالرئيس مهيأ أكثر من أي وقت مضى للنظر في المسار العام أو أن تكون هناك «كشافات على الطريق» ـ بنص تعبيره.
الموعد المقترح لأن يطرح ما لديه من أفكار جديدة (6) أغسطس عند افتتاح قناة السويس الموازية أو بالأحرى أكبر توسعة في تاريخ القناة منذ تأسيسها.
النزعة نفسها إيجابية غير أنها تستدعي مراجعة كاملة لأوجه القصور في الأداء العام والمشروعات المقترحة والتوقف في الوقت ذاته عن الرهانات التي ثبت خطؤها مثل دعوة رجال الأعمال للتبرع إلى صندوق «تحيا مصر» مرة بعد أخرى دون أي حصاد له قيمة.
لا يملك الرئيس أن يضغط على أحد للتبرع في صندوق يستهدف خدمات عامة لكنه يملك أدوات الدولة في الحصول على مستحقاتها من مواردها التي أهدرت ونهبت كما لم يحدث في التاريخ الحديث كله.
أن يفرض ضرائب تصاعدية يقرها الدستور وضرائب أخرى على الثروة دعا إليها رجال أعمال في بداية ثورة «يونيو» قبل أن يصبح كل شيء مرتهنا لأريحية التبرعات.
ما تحتاجه مصر أن تعلن الدولة قوة حضورها وفق قيم عصرها، أن تقنع مواطنيها أن القانون يحكمها والعدل سيفها.
(عن صحيفة الشروق المصرية، 30 حزيران/ يونيو 2015)