أثار المشروع الذي اقترحه الرئيس
التونسي الباجي قائد السبسي، ووافقت عليه الحكومة، بشأن "
المصالحة" مع رجال الأعمال المتهمين بالفساد في فترة حكم
بن علي، انتقادات واسعة بوصفه قانونا "غير دستوري"، وتمهيدا لإنهاء مسار العدالة الانتقالية الذي انطلق منذ أشهر.
وقد شهدت الساحة السياسية والحقوقية التونسية خلال الأسبوع المنقضي حركية كبيرة من أجل الضغط على مجلس نواب الشعب الذي سيكون أمام فرضيتي إسقاطه أو تمريره.
القانون يؤسس لثقافة الإفلات من العقاب
وقد اعتبرت هيئة الحقيقة والكرامة، وهي الهيئة المُكلفة حسب الدستور التونسي بتفعيل مسار العدالة الانتقالية، في بيان لها، الإثنين، أن مشروع "المصالحة الاقتصادية" يُفرغ منظومة العدالة الانتقالية من محتواها ويؤدي إلى التخلي عن أهم آلياتها في كشف الحقيقة والمساءلة وإصلاح المؤسسات.
وقالت الهيئة إن مشروع القانون يضمن الإفلات من العقاب لمرتكبي أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، وفق المصدر ذاته.
ورأت أن مشروع قانون المصالحة المذكور أعد دون استشارة أي من المؤسسات والهياكل القائمة ذات العلاقة بموضوعه وخاصة منها هيئة الحقيقة والكرامة، لاسيما وأنه تم التنصيص على مشاركة أعضاء الهيئة في تركيبة لجنة التحكيم المقترحة في حدود الثلث، وأكدت الهيئة تعارض مشروع القانون مع الدستور وإهماله لقواعد النظام العام الدستوري.
وفي تصريحها لصحيفة "
عربي 21"، قالت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين، إن القانون ينازع المؤسسة المكلفة بالعدالة الإنتقالية صلاحياتها وسيفضي إلى إضعافها.
وأشارت إلى أن الفصل الأول من قانون العدالة الإنتقالية نص على أن منظومة العدالة الإنتقالية هي منظومة متلازمة، وهو ما يتعارض مع ما تسعى إليه رئاسة الجمهورية من خلال خلق مسار موازي لعمل أحد لجان الهيئة وهي لجنة التحكيم والمصالحة.
خيانة للثورة وخرق للدستور
وفي السياق ذاته، قال القاضي أحمد صواب، عضو لجنة المصادرة، وهي اللجنة المعنية بمصادرة أملاك عائلة الرئيس السابق بن علي وأصهاره، في تصريح إذاعي لشمس أف أم، إن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي قدمه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي خيانة للثورة وخرق للدستور.
وأضاف أنه مع المصالحة ومع الحد الأدنى من العدالة الانتقالية وأنه لا يريد المحاسبة ولا المساءلة لكنه يريد معرفة الحقيقة والاعتذار.
وأوضح أن هذا المشروع يجعل من رجال الأعمال "ضحايا في حين أنهم جناة"، كما أشار ضيف إلى أن حملة انطلقت منذ 30 آذار/ مارس الماضي ضد اللجنة بإصدار ثلاثة أحكام بإيقاف تنفيذ مصادرة لأحد أصهار بن علي، مشددا على أن الحملة يقف وراءها جزء من قصر قرطاج.
تجدر الإشارة إلى أن صواب قدم استقالته من عضوية اللجنة، الثلاثاء، احتجاجا على هذا القانون الذي اعتبره "انحرافا خطيرا بمسار العدالة الإنتقالية" وعلى ما تتعرض له اللجنة من مُضايقات وفق ما صرح به لوسائل الإعلام.
المحاسبة قبل المصالحة
من جهته، أطلق حزب التيار الديمقراطي (معارض) على صفحته الرسمية في "فيسبوك" حملة بعنوان " كي نتحاسبوا تو نتصالحوا" ( بعد المحاسبة نتصالح، بالعامية التونسية).
وطالب التيار الديمقراطي من خلال هذه الحملة الأطراف المعنية بضرورة محاسبة كل المتورطين في الفساد قبل الدخول في مصالحة معهم، معتبرا تأجيل المعركة مع الفساد قد يكون مكلفا جدا لتونس.
واعتبر التيار الديمقراطي المعركة ضد الفساد وحليفه الموضوعي الإرهاب لا فرق بينهما في الضرر، مشددا على أن الاثنان ينشران الخراب أينما حلا ويعاديان توق الشعب التونسي إلى الحرية والرقي.
ودعا التيار، صاحب الحملة، كل أعضاء الأحزاب المشاركة في الحكم وخاصة مناضلي حركة النهضة إلى عدم دعم هذا المشروع، وتوفير سبل تسريع عمل العدالة الانتقالية دون مساس بقانونها، مطالبا بضرورة فتح ملفات الفساد وتطبيق القوانين على الجميع واحترام حقوق الإنسان.
جمعيات تدعو للتصدي للقانون
وفي سياق متصل، أصدرت الخميس، تسع جمعيات بيانا مشتركا عبرت فيه عن رفضها لمشروع قانون المصالحة الذي اقترحه الرئيس التونسي، معتبرة أنه يتناقض مع الدستور الذي يلزم الدولة التونسية بتطبيق مسار منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها "ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة والعقاب بمرور الزمن".
وورد في البيان الذي أمضت عليه كلا من التنسيقية الوطنية المستقلة للعدالة الانتقالية، والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، وجمعية النساء الديمقراطيات، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعية يقظة من أجل الديمقراطية ومدنية الدولة، ومنظمة 23/10 لدعم المسار الديمقراطي، واللجنة الوطنية من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن هذا المشروع لا يتناسق تماما مع تعهدات رئيس الحكومة خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي بضرورة القطع مع التطبيع مع المفسدين.
وطالبت هذه المنظمات في بيانها، مجلس نواب الشعب "بعدم المصادقة على مشروع قانون المصالحة لما يمثله من التفاف على مسار العدالة الانتقالية بكل أبعادها".
من المنتظر أن يكون هذا القانون على سلم أولويات مجلس نواب الشعب بعد الانتهاء من المصادقة على قانون الإرهاب الذي انطلقت المداولات بشأنه أمس. ورغم حجم المعارضة المدنية والسياسية التي واجهت مقترح السبسي، إلا أن موازين القوى في المجلس قد تجعل من مروره أمرا أكيدا خاصة مع ما يبدو قبولا بالمبدأ بحسب ما عبرت عنه قيادات حركة النهضة، صاحبة الكتلة البرلمانية الثانية.