كتاب عربي 21

الديمقراطية… من أجل لوبيات الأثرياء

1300x600
ليس الثراء في تونس مشكلا، ولا الأثرياء بالضرورة. بل كثيرهم ضحايا. ضحايا دولة بيروقراطية. ولكن أيضا ضحايا لوبيات أثرياء آخرين، كانوا دائما المنتصرين. لوبيات منتصرة بالاستبداد والآن بفضل الديمقراطية. أو الأصح ليست الديمقراطية كما هي، بل تلك التي تكون ويتم تعديلها لتكون من أجل الأثرياء. هذا المقال حول لوبيات الأثرياء المنتصرين دوما على حساب الأغلبية الساحقة من ضعاف ومتوسطي الدخل بالديمقراطية ودونها. ولاستكمال الحلقة يتم عادة قبل الديمقراطية وبعدها الإطباق على أنفاس الأغلبية بقانون طوارئ بذريعة مكافحة الإرهاب، والهدف في الحقيقة إرهاب الأغلبية للخضوع لحكم اللوبيات. ويبقى كل منهما يغذي الآخر: إرهاب الجماعات (التكفيرية) وإرهاب اللوبيات. 

في آخر دراسة للبنك الدولي حول  تونس في أيار/ مايو 2015 بعنوان "النفوذ السياسي والتهرب الضريبي: أدلة من تونس" وبفضل عمل أرشيفي دقيق تم التوصل إلى الرقم التالي: في عهد "الكفاءات" بين سنتي 2002 و2009  تهربت 206 شركة من التعريفات الجمركية، مما أدى لخسارة الدولة ما يصل إلى حوالي 2 مليار دولار. 

وأكدت التسريبات المعروفة باسم "سويس ليكس" التي تم نشرها في عدد من الصحف الدولية في فيفري 2015 ان رجال أعمال تونسيين، بما فيهم المنتمون لبعض العائلات التي بقيت نافذة بعد الثورة هربوا أموالا طائلة إلى أحد أشهر البنوك السويسرية. وكشفت التسريبات التي تخص بنكا سويسريا واحدا عن أكثر من 600 حساب بنكي مرتبط بأشخاص طبيعيين تونسيين، أو شركات تونسية، وأنها تحتوي ما قيمته 550 مليون دولار. وكانت دراسة سابقة عن جامعة ماساشوستس (امهرست) صدرت سنة 2012 حول هروب الأموال إلى الخارج في شمال إفريقيا، كشفت أنه خلال فترة "الكفاءات" زمن بن علي، خسرت تونس ما قيمته 33.9 مليار دولار بمعدل 1.5 مليار دولار في السنة. 

وكنت أشرت منذ أسبوعين إلى تقرير سنة 2015 "New World Wealth" لمكتب دراسات بريطاني، الذي يشير إلى أنه في تونس الآن 70 مليارديرا يملكون ما يعادل 37 مرة ميزانية الدولة التونسية. في حين تتصدر تونس قائمة الدول المغاربية في عدد المليونيرات بما يعادل+ 6500 مليونيرا، متقدمة على ليبيا (6400) والمغرب (4900) والجزائر (4100)، وتأتي ضمن العشرة الأوائل في إفريقيا. 

وهذا يعني أن هناك لوبيات أثرياء استفادوا على حساب البقية. ومثلما يستخلص لتقرير البنك الدولي حول التهرب الضريبي: "بالإضافة إلى  الخسائر التي تتكبدها المالية العامة، فإن التهرب من الرسوم الجمركية على الواردات أدى أيضا إلى تقويض المنافسة وإلى غياب تكافؤ الفرص. فقد منحت الشركات التي تتمتع بعلاقات سياسية ميزة غير مستحقة على الشركات العادية، لا تستند إلى زيادة في الإنتاجية أو التميز في الكفاءة. كما ساهمت في انعدام المساواة بسماحها للأثرياء، والدوائر المقربة من السلطة بجني أرباح أكبر من خلال دفع رسوم جمركية أقل على الواردات". 

بعد فترة انتقالية طويلة وإعداد مشروع إصلاح للتهرب الضريبي، انتهى مشروع قانون المالية التكميلي لأول "حكومة دائمة" بعد الثورة، كان ينتظر أن تقدم تصورا استراتيجيا أوليا حول مقاومة التهرب الضريبي، انتهى إلى صمت مطبق على هذا الموضوع. وفي الوقت الذي تصل فيه نسبة المليونيرات التونسيين أكبر نسبة في شمال إفريقيا، فإن من سيتحمل ثقل الضرائب الأكبر هم الأجراء العموميون الذين تقتطع ضرائبهم على الدخل. في حين لا كلمة واحدة عن إمكانية الضريبة على الثروة. 

وفي الوقت ذاته يدفع الرباعي الحاكم في جنح الليل إلى ضخ 800 مليار من أموال دافعي الضرائب في بنكين عموميين، دون عرض تقرير التدقيق فيهما على الرأي العام لاستخلاص مسار الفساد، الذي أدى بهما إلى الصعوبات التي يمران بها منذ عقود الاستبداد.

وأخيرا إزاء الفساد بما في ذلك تهريب الأموال إلى الخارج أو ما يسمى بـ"جرائم الصرف"، اقترح الرئيس السبسي وبدعم من الرباعي الحاكم قانون "المصالحة الاقتصادية"، الذي يتم تقديمه على أنه إجراء لإنقاذ الاقتصاد. الواقع أنه إنقاذ للوبيات التي تدعم حزب الرئيس وحلفاءه. ومثلما تشرح نشرية "المفكرة القانونية" في مقال حول الموضوع صدر منذ أسبوع: "لم يلتفت مشروع القانون للبحث في مصدر الأموال المهربة للخارج أو العملات الأجنبية الممسوكة خارج المسالك القانونية... اكتفى مشروع القانون باقتراح صلح مع من يمسكون تلك الأموال، يضمن ضخ تلك الأموال في الدورة الاقتصادية بتونس مقابل خطية مالية… ويؤدي هذا الاتجاه للقبول بدور للمال الفاسد مجهول المصدر بالدورة الاقتصادية، كما يؤدي هذا الاختيار لمنح أصحاب الأموال المهربة من فرص لاستثمار أموالهم بتونس، بما يؤدي لتعزيز نفوذهم في الساحة الاقتصادية وبشكل تبعي في الساحة السياسية." 

ومن ثمة عكس ما يروجه داعمو المشروع ،فإن الربح الظاهر للدورة الاقتصادية يخفي ضربا لمصداقية السوق التونسية ويقوض عمليا ثقة المستثمرين فيها، ويحبط من يلتزم بالقانون ويشجع عقلية التهرب منه، ويجعله دائما في انتظار السياسي الذي سيمحيه بقانون "مصالحة" جديد. وتأبيد فلسفة "هو يسرق وأنت تخلص".  

وملخص الوضع أن لوبيات الأثرياء بقدر ما استفادوا في عهد الاستبداد بتشكيلهم لحاشية تحيط بمافيا عائلة بن علي، فإنهم واصلوا استفادتهم في الانتقال الديمقراطي من التغلغل بالمال السياسي في عدد من الأحزاب، ومن ثمة التأثير على الناخبين. وانتهى الوضع إلى تصويت غالبية من الفقراء ومتوسطي الدخل إلى أغلبية برلمانية تخدم لوبيات الأثرياء القلائل. 

بيد أن أكبر مصادر غرور الوفاق البرلماني الحاكم، هو هيمنتهم على مجلس نواب الشعب، مقابل نسيانهم أن الديمقراطية وتوازناتها لا تتوقف في المؤسسات، بل تمتد إلى الشارع. وهنا ينسى هؤلاء أنه في أكتوبر 2014 انتخب 15% فقط من مجمل الناخبين التونسيين الذين يقارب عددهم ثمانية ملايين مواطن، الحزب الأغلبي الحالي الذي يشكل ركن الزاوية في الوفاق. في الأثناء وكما تشير استطلاعات الراي حتى تلك النسبة اهترأت تدريجيا، وفي أقل من عام أصبحت غالبية منها تعتبر أن الحكومة تسير في الطريق الخطأ، وذلك رغم مهادنة و"تسامح" لوبيات كبيرة في الإعلام تجاه السلطة الجديدة. وهكذا نحن إزاء ملايين الناخبين الذين لم يسندوا البتة أو لا يسندون الآن هذا الوفاق الحاكم. 

يريدونها أن تكون ديمقراطية من أجل لوبيات الأثرياء. لكن الوضع أكقر تعقيدا وأكثر ديناميكية في هذا المجال العربي الذي يبدو أنه يستفيق ببطئ وبكثير من الكوابيس، لكنه من الواضح أنه يستفيق. ولا يمكن أن تستقر الديمقراطية عربيا إلا عندما تكون عادلة اجتماعيا. ديمقراطية من أجل الجميع. كما هو معناها تحديدا.