"فقدت الوعي عدة مرات، خرجت في الثامنة مساء بلا زاد ولا مال، ولا أهل، بحثت عن أمي وأبي عدة مرات بعد أن تفرقنا وسط الضرب والحرائق، وبعد أن احترقت خيمتنا فلم أجد أحدا، احترقت حقيبتي، وملابسي، وموبايلي (المحمول) وتابي (جهاز لوحي) والكاميرا، خرجت بعد أن خيم الظلام وفاحت رائحة الدماء، وانتشرت أشلاء الجثث، فبحثت بين الضحايا والشهداء عن أبي، وأمي، خوفا أن يكونوا بينهم، فلم أتعرف على وجوه الكثير من كثرة الدماء التي تغطي الوجوه والأجساد".
بتلك الكلمات وصفت عائشة محمد في حديثها مع الأناضول، لحظة خروجها بعد فض ميدان
رابعة العدوية.
وفي مثل هذا اليوم، 14 آب/ أغسطس 2013، فضت قوات من الجيش والشرطة بالقوة اعتصامين سلميين لمعارضي السلطات الحالية في
مصر في ميداني "رابعة العدوية" (شرقي القاهرة)، و"
النهضة" (غربي العاصمة)، ما أسفر عن سقوط أكثر من ألف قتيل وفق منظمات حقوقية محلية ودولية.
وأكملت عائشة: "أتذكر جيدا المشاهد، وكأنها حدثت بالأمس، وليس قبل عامين، حينما بدأت المناوشات والضرب على أطراف الميدان، بعد الفجر مباشرة كنت حينها في الخيمة الخاصة بنا، التي أقمنا فيها طوال فترة الاعتصام".
وتابعت، "فجأة تعالت النداءات على منصة رابعة، لنتجمع أمام المنصة، وفي منتصف الميدان، كنت مريضة حينها، ودرجة حرارتي تعدت الأربعين، فتحاملت على نفسي، واستندت إلى أمي وخرجنا، بعد خروجنا بدقائق علمنا أن خيمتنا قد احترقت مع الخيام المجاورة لها على أطراف الميدان".
وأضافت عائشة "المشاهد كانت مرعبة، والأطفال أمامنا تموت، وتختنق من الغاز، بينما كانت السيدات طوال الوقت يقمن بدور التحميس والتثبيت للشباب، فيتنقلن في أرجاء الميدان ليكبرن ويهللن ويرددن آيات القرآن، ومن أكثر المشاهد صعوبة التي رأيتها بعيني هم الأطفال المصابون باختناقات نتيجة قنابل الغاز التي انتشرت في الميدان".
وتابعت عائشة بألم "بعدما تم
حرق الخيام، ثم المنصة التي تم قذفها بالرصاص الحي، ثم إزالتها بالبلدوزر (جرافة)، كنا نبحث عن مكان نحتمي فيه من الرصاص والخرطوش بعد أن أجهدنا طوال اليوم، فذهبنا إلى محيط مسجد رابعة الذي تحول إلى المستشفى الميداني لإسعاف المصابين، لنختبئ ونلتقط الأنفاس، فما لبثنا إلا وقد وجدنا مئات الجثامين حولنا".
وأضافت، "ما هي إلا دقائق، وبدأ الضرب تجاه المستشفى، فتكاثر المصابون والموتى، رأيت أحدهم وقد فتح قلبه، وآخر خرج مخه من رأسه، وثالث مات وهو ساجد يصلي، وماهي إلا دقائق حتى احترقت المستشفى بأكملها".
وأكلمت عائشة "كانت السادسة مساء، حينما ضاعت مني أمي، وفقدت الاتصال بجميع أفراد أسرتي، وكان بجانبي رجل وزوجته، ظللنا نبحث عن مخرج من الميدان حتى أرشدنا أحدهم إلى باب خلفي خرجنا منه، وكانت قوات الشرطة والجيش تصوب أسلحتها تجاهنا، فلا صوت ولا نفس".
بين القاهرة، والإسكندرية (مقر إقامة عائشة) عشرات الكيلو مترات قطعتها مع والدتها بعد أن التقت بها صدفة خارج الميدان، دون أن يعرفا عن الأب أي شيء حيث فقدت وسائل الاتصال به، ولم يلتقيا إلا بعد أيام عند عودته هو الآخر إلى المنزل.
"صوت الضرب والرصاص يكاد يصم الآذان، والقنابل تكاد تعمي الأعين وتصيب أحدهم بالاختناق فتودي بحياته في الحال، صرخات الأطفال، وتكبيرات النساء التي كانت تغطي أحيانا على أصوات طلقات الرصاص"، بتلك الكلمات وصفت إسراء يحيى للأناضول، مشهد فض ميدان النهضة.
وتابعت إسراء (19 عاما): "كأني أرى المشهد أمامي الآن، حفرته الذاكرة ولا أستطيع نسيانه، بدأت تعلو أصوات النساء بالتكبير، ثم بدأن الانتشار في الميدان لترديد بعض آيات الثبات، وتوزيع زجاجات المياه، والعصائر، والخل (لتخفيف تأثير قنابل الغاز المسيل للدموع)، ثم بدأنا في تقسيم أنفسنا على المصابين، وعمل مستشفيات ميدانية صغيرة، تقوم بالإسعافات الأولية للمصابين حتى يتم نقلهم إلى الأطباء".
وبدموع منهمرة تذكرت أماني إبراهيم، وهي أم لطفلة (آمنة) ذات الخمس سنوات، وكانت تصحبها معها في ميدان رابعة قائلة: "كان أشبه بيوم القيامة، كر وفر، وهرولة، فقدت الوعي عدة مرات من الغاز، فأنا مصابة بالربو (مرض يصيب الجهاز التنفسي)، وكذلك طفلتي التي كدت أفقدها لولا إسعافها عدة مرات بالأكسجين.
وأضافت أماني "ذهبت للمستشفى الميداني لأقوم ببعض الإسعافات الأولية التي أعرفها وأساعد الاطباء هناك، فما وجدت إلا قدمي، وهي تغرق في بركة من الدماء، ففي الدقيقة الواحدة كان يموت أكثر من 5 مصابين لقلة المسعفين، ولعدم توافر المواد الطبية اللازمة، فقمت بالمساعدة حتى سمعنا أنباء عن احتراق المستشفى الميداني، ونحن بداخلها، فحاولنا حينها أخذ المصابين لمكان آخر، ومنهم من قام بإلقاء نفسه من نافذات المستشفى".
"استيقظنا في ذلك اليوم، على شباب يهرول يمينا ويسارا، وهو يطرق على أعمدة الكهرباء المحيطة بالمكان لتنبيه الجميع أن اليوم الذي بدأ صباحه عاديا، لم يعد كذلك، ليظل محفورا في الذاكرة أبد الدهر"، كلمات قالتها إيمان كامل، مهندسة (32 عاما).
إيمان التي خرجت يوم فض ميدان رابعة، مصابة بطلق ناري في القدم وبطلقات خرطوش في مختلف أنحاء الجسد قالت للأناضول: "لم أتحرك أنا واثنين من أصدقائي، قررنا ألا نقوم ونظل ندعو، ونتضرع إلى الله، ونصلي، ونعلي أصواتنا بالتكبيرات، ونجمع الأطفال حولنا ونطمئنهم، ونحكي لهم القصص، حتى نلهيهم عما يحدث، ظنا منا أن ما يحدث مجرد مناوشات على أطراف الميدان، وأنهم لن يقدروا على اقتحامه".
وتابعت إيمان "تجمع حولنا عشرات الأطفال ثم بدأت حالات الإغماء، وسقوط طفل تلو الآخر، فبدأنا بنقلهم إلى المستشفى الميداني، وعدنا إلى المكان نفسه".
وأضافت "قبل العصر، زاد الضرب، واشتدت طلقات الرصاص، وانهارت الحواجز باستثناء حاجز واحد فقط ذهبنا وجلسنا خلفه، وصلينا العصر، ثم سمعنا في آخر الصلاة صوت يقول الله ينور يابلدوزر خش خش (تقدم)، فدخل البلدوزر، وجرف الخيام، وبعدها أخدت طلقة رصاص في قدمي، فقدت بعدها الوعي، وبعد أن أفقت وجدت نفسي بالمستشفى الميداني، التي عرفت بعد ذلك أنه تم نقلي منها في الثواني الأخيرة قبل أن تحرق".