لا يخفى على أحد أنَّ الحكومة التركية وشعبها قدما كثيرا للشعب السوري وثورته، لكنَّ الدعم في معظمه أخذ منحى إنسانيا إغاثيا سياسيّا، خلافا للدعم الإيراني للنظام السوري الذي أخذ منحى عسكريا، فساهم الأتراك بتخفيف المعاناة دون إنهائها.
وتحملت
تركيا نتيجة هذا الدعم أعباء مادية، وضغوطا سياسيّة، وأخطارا أمنية تمثلت بخطر قوتين ظلاميتين لاتؤمنان بمبدأ الحوار، وتأخذان العنف سبيلا لتحقيق الغايات، فبات تنظيم الدولة وحزب العمال يشكلان تهديدا مباشرا على الأمن التركي، ويسعيان رغم عدائهما لتفكيك الدولة التركية الحديثة.
وما فاقم خطورة الموقف التركي وأزّمه تخلي ما يسمى أصدقاء الشعب السوري عن دعم تركيا سياسيا وماديا وعسكريا، رغم التقارب السعودي التركي الأخير، بل مارس بعضهم ضغوطا مالية وسياسية على تركيا، ولم تدخر آلتهم الإعلامية فرصة للتهجم على أردوغان وتشويهه وحزبه نتيجة الصبغة الإسلامية لتوجهه ودعمه للربيع العربي ووقوفه بوجه انقلابات العسكر واستبداد الظلمة، ووصل الأمر لاتهام أردوغان وحكومته بدعم وتمويل تنظيم الدولة ماديا وعسكريّا، وما زاد الطين بلة استعانة القوة الكبرى في حلف الناتو (أمريكا) بحزب العمال الكردستاني في نسخته السورية في مواجهة تنظيم الدولة، ضاربة بعرض الحائط ومتجاهلة العلاقة الوثيقة بين حزب العمال والنظام السوري من جهة، والأهداف الحقيقية لقوات الحماية الكردية في الانفصال بدولة كردية تهدد الأمن التركي من جهة أخرى.
وكبّلَ الواقعُ وخريطةُ التحالفات الحكومةَ التركية التي رُفِضَ –دائما- مقترحها ولا سيما من أمريكا بتدخل عسكري يطال الأسد والتنظيم معا، بل مُنِعَتْ تركيا من تقديم سلاح نوعي يقلب المعادلة العسكرية، فانكفأت الحكومة التركية لتكتفي بممارسة دور المتفرج على تمدد تنظيم الدولة. لكنَّ تفجير سروج، وسيطرة قوات الحماية الكردية على تل أبيض وبعض المناطق العربية وتوجهها نحو الغرب، دقّ ناقوس الخطر، وأجبر تركيا على توقيع اتفاق مع أمريكا يحقق الغاية الدنيا من المصلحة التركية.
ويعلم تنظيم الدولة والكرد على حد سواء أنّ الاتفاق والتدخل التركي لا يصب في صالح أحد منهما، فبادر تنظيم الدولة لتحصين المدن الواقعة تحت سيطرته، ولا سيما الباب وجرابلس، كما قامت قوات الحماية الكردية بتسليم مدينة تل أبيض لفصائل من الجيش الحر –ولو شكليا- لسحب مبررات التدخل التركي، وتبديد مخاوف الجميع حول مطامع كردية في مناطق غرب الفرات حيث النية لإقامة منطقة آمنة.
ويبقى تأثير التدخل التركي على تنظيم الدولة كارثيا، ولا سيما إذا تدخلت تركيا بقوة فعّالة ويعود ذلك لعوامل عدة، فشعار "باقية وتتمدد" سيحذف شقه الثاني "تتمدد" بمجرد بدء التدخل التركي، فالدور التركي يختلف عن الدور الأمريكي كثيرا لامتلاك تركيا كثيرا من المفاتيح وعناصر القوة غير المتوفرة عند الأمريكان بحكم الموقع وغيره من الأمور.
يدرك السوريون أنَّ أعداداً كبيرة من الأتراك أو التركمان من دول آسيا منخرطون في صفوف التنظيم، ولهؤلاء دور بارز في انتصارات التنظيم وعددهم يتجاوز خمسة آلاف على أقل تقدير، ومنهم أمراء في التنظيم، فأمير التنظيم في مدينة الراعي "قرية عياشة" التي قتل مقابلها جندي تركي يحمل الجنسية التركية، ولا شكَّ أنّ ضمن هؤلاء الآلاف كثيرا من العملاء المرتبطين بالمخابرات التركية مما يفعل العمليات التركية.
وسيكشف التدخل التركي عوار تنظيم الدولة الذي سيظهر للعلن وكأنه قوّة ظلامية هدفها حرب السنة دون سواهم، وسيسحب ذريعة التنظيم بدفاعه عن السنة، وقد أخذ التدخل التركي ضد التنظيم وحزب العمال مباركة علماء الشام عبر فتوى المجلس الإسلامي السوري الذي أجاز الاستعانة بالأتراك ضدهما معا.
وقد تحصل تصدعات وانشقاقات داخل تنظيم الدولة نتيجة الخسائر التي ستحل بالتنظيم، وستجبر هذه الخسائر التنظيم على إجراء معالجة شاملة لسياسته الخاطئة التي اعتبرت الكل أعداء لدولة الخلافة. كما ستمكن المنطقة الخالية من تنظيم الدولة الثوار من إعادة ترتيب بيتهم الداخلي، وبالتالي يعود بقوة خيار وجود البديل عن الأسد والتنظيم.
كما ستحرم هذه المنطقة في حال رأت النور التنظيم من الرافد الخارجي، إذ ستفصل حدود الدولة التركية عن "دولة الخلافة" مما يعني حرمان التنظيم من مقاتلين أشداء مستعدين للتضحية، فضلا عن حرمان التنظيم من منافذ التهريب مع الدولة التركية.
وسيُضاف للخسارة العسكرية خسارتين مادية وبشرية الأولى تتمثل بخسارة التنظيم مدنا مهمة "الباب، منبج، جرابلس، وأرياف هذه المدن مما يعني حرمانه من موارد مادية هائلة فضلا عن الخسارة البشرية؛ إذ بات الريف الشرقي السني لحلب يمثل خزانا بشريا مهما للتنظيم سيحرم منه.
وتبقى خيارات التنظيم محدودة وسيعزف على وتر موالاة الأتراك "للكفار" الأمريكان في مواجهة "دولة الخلافة"، وسيأخذ التنظيم من تجاهل التحالف ضرب الأسد وسيلة دعائية، لكنّ تركيا حصنت نفسها عبر دعم علماء الشام لتدخلها، كما أنَّ الشارع التركي غير مبال حقيقة بهذا الخطاب، غير أنَّ التدخل التركي سيؤمن الحدود التركية، ويحفظ لها أمنها القومي المتمثل بمنع إقامة دولة كردية في الشمال السوري من جهة، وفصل حدودها عن حدود مناطق سيطرة التنظيم مما يفند كل المزاعم التي تتحدث عن صلة أو دعم ما تقدمه الحومة التركية للتنظيم.ولعل الانعكاس الأكبر يتمثل بإضفاء الشرعية وتقديم الدعم للحكومة التركية في مواجهة حزب العمال الكردستاني العدو الحقيقي للتنظيم.
ويخشى الأتراك كثير من حرب المفخخات والعمليات الانتحارية سواء من تنظيم الدولة أو حزب العمال الكردستاني، وهذا هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يُستخدم ضد الحكومة التركية لكنّه بلا شك سيزيد من إصرار الأتراك على المضي في حربهم.
وسيقدم التدخل التركي دعما مباشر للثوار عبر كسر شوكة التنظيم، ودفع خطره عن الثوار، كما سيترك للثوار هامش الحركة ضد نظام الأسد، فكلما أعدوا لمعركة ضد النظام فاجأهم التنظيم بحشوده ضدهم فعادوا القهقرى، وستكشف الأيام القريبة أثر التدخل التركي في بداية النهاية للنظام والتنظيم، وهدم المشروع الكردي الانفصالي.