عُرف العرب قديما بعادة إيقاد النار على الجبال القريبة من مساكنهم، ليس لتلويث البيئة، بل لكي تهدي عابري السبيل في ظلمة الليل، ولكي تكون دلالة على أن المنطقة مسكونة بأناس يقدمون دعوة مفتوحة لإقامة تكريمية دون معرفة مسبقة أو شروط مطبقة. ثم ظهر الإسلام فكرس قيمة إغاثة الملهوف وجعلها واجبا ينهض به القادرون عبر نصوص شرعية أكدت أن "من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين".
والملهوف في قاموس "معجم المعاني" هو المظلوم الذي ينادي ويستغيث طالبا النجدة، وهو الحزين المفجوع إما لذهاب ماله أَو فقدان عزيز عليه. وبهذه المعاني فإن القاموس كأنه يصف من واقعنا الراهن أحوال الشعب السوري وأهوال الشعب العراقي ومظالم اليمنيين والمصريين والليبيين والفلسطينيين واللبنانيين، وما بدأ يلمع من أحجار الدومينو العربية. فكيف يتعاطى اليوم أحفاد موقدي نار الضيافة، وأتباع رحمة البشر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مع أبناء جلدتهم، إذا سلمنا جدلا بشراكة الجلد واللحم والعظم؟
الجواب يأتينا يوميا على مدار الساعات والأقمار الصناعية، مراكب صيد بسيطة تقل ألوف الملهوفين العرب، تحطمها الأمواج العادية وليس العاتية فيغرق من فيها، لتعود جثثهم إلى شواطئ ليبيا أو تركيا، ومن له حظ تسبح جثته إلى جزيرة يونانية أو إيطالية ليسجل انتصارا بعد الممات، بأنه وصل إلى "جنة"
أوروبا ولو دون قلب ورئتين، وقد يحظى بمدفن صغير تتباهى به سلالته إذا نجا أحد منها أمام من ينجو في الجهة الأخرى على أرض الوطن من بحور حروب الأحقاد الطائفية.
قد يسأل أحد سكان كوكب عطارد، ولماذا لم يتبادر إلى أذهان هؤلاء المساكين التوزع برا على الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، والعيش جنبا إلى جنب مع العمال الهنود والباكستانيين والبنغال والفيليبينيين والعاملات الروسيات والأوكرانيات والرومانيات، بدل المخاطرة بالأرواح في البحور بهجرة غير شرعية هزت أوروبا التي تداعى منها وزراء خارجيات فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وطالبوا بـ"توزيع عادل للاجئين في أوروبا"؟ هم قالوا "في أوروبا" ولم يقولوا "في أوروبا ودول عربية"، لسبب واحد وهو أنهم لا يعيشون في عطارد بل في الأرض، وعلى الجانب العربي من هذه الأرض لم تعد توقَد النار لإغاثة الملهوف، بل ليشوي بها "أبو عزرائيل" نجم قوات "حش" رجلا سنيا ويقطعه مثل الشاورما لأكله، ولترد عليه قوات "داعش" بإشعال نار أخرى تلهب أجساد أربعة رجال شيعة كما تشوى المواشي المكتفة.
في العالم العربي اليوم توقد تلال حلب وساحات دوما وأرياف حمص بما لا ينضب من براميل البارود، وفي مدن العراق تحترق المياه من هول الجرائم، وفي اليمن بدأت اللعبة بإشعال الرئيس الذي عولج في مستشفيات
السعودية فوضعوا "جلدة قفاه على وجهه"، وهو علاج يندرج الغدر ضمن أعراضه الجانبية. وفي العالم العربي تشتعل النيران في ميادين القاهرة وبوادي سيناء، وتضاء المصابيح على قمم دبي في سهرة رأس السنة الميلادية.
لماذا؟ أليس هؤلاء العرب هم أحفاد من كان يقري الضيف وهم أنفسهم أتباع محمد، يسأل سائل من كوكب الزهرة هذه المرة، لا يعرف حتما أن تراث محمد ليس بطاقة انتماء طائفي بل إرث حضاري تركه لمن لا يريد أن يضل من بعده أبدا. أما الشيم العربية فقد سقط منها ما هو أعظم من إيواء الخائفين، أصبحنا نحن نخيف النساء والأطفال، وهذه منقصة لم يرضها أبو جهل لنفسه عندما خطط لاغتيال سيد الخلق محمد فسأله بعض شبيحة قريش: يا أبا الحَكم لماذا لاتتسور (تدخل) بيت محمد و تقتله؟ فرد أبو جهل: أتتحدث العرب أني أروع بنات محمد...!