قضايا وآراء

الإنسان والقرآن... قراءة في بناء الأمة

1300x600
يقول الأستاذ مالك بن نبي " ينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر بمرحلة خطيرة، إذ تتلقى النهضة الإسلامية أفكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية وخاصة عن طريق مصر. هذه الأفكار الفنية لا تقتصر على أشياء الحياة الفكرية الجديدة التي يتعود عليها الشباب المسلم شيئا فشيئا، بل إنها تمس أيضا وبطريقة غامضة، ما يتصل بالفكر وما يتصل بالنفس؛ وفي كلمة واحدة: ما يتصل بالحياة الروحية".

الأفكار لا تنشأ من فراغ إنما هي نتاج مقدمات ومدخلات فكرية تتفاعل داخل العقل لتنتج مخرجا؛ فلا يمكن إهمال تلك التأثيرات على العقل ومخرجاته.

والبناء الإجرائي لأي حضارة هو نابع من مجموعة من الأفكار الكلية التي تصنع الأيديولوجي ويحمل بداخله جيناتها؛ وبالتالي يجب إدراك خطورة نقل إجراء ما دون إدراك جيد للأبعاد الفكرية لذلك ؛ وهذا النقل لا يحدث إلا إذا كانت تلك الحضارة تمتلك من المقومات والقوة والتماسك ما يتيح لها القدرة على القراءة الصحيحة لطبيعة الإجراء ومدي ارتباطه العضوي بالأفكار الكلية لحضارته الأصلية؛ ذكر د على الصلابي في كتابه سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ص 259 أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نقل نظم الإدارة من الحضارة الفارسية ولكن كان المجتمع في ذلك الوقت يمتلك مرجعيته ويتسق معها بشكل كبير مما يجعل من الصعب بل من المستحيل أن يسمح باقتحام إجراء أو فكرة تتناقض مع مرجعية حضارته. واستمرت بنية الحضارة الإسلامية هي المحور الرئيسي للمجتمعات لأكثر من ألف عام بالرغم من الحيود الشديد عن النموذج؛ ولكن دائما ما بقيت المجتمعات في تنظيمها وحركتها تنتمي للأطر الحضارية الإسلامية.

إن المجتمع المتماسك المدرك لأبعاد أفكاره وقيمه هو حائط الصد الأول والأقوى ضد الاختراقات الفكرية؛ والحضارة الغربية نجحت في القرون السابقة في عمل اختراق شامل ومدمر للمجتمعات في كل العالم وخاصة المجتمع الإسلامي؛ واستطاعت تشويهه بشراسة باستخدام أدوات متعددة.

والمجتمع الإسلامي يعتمد على تماسك أفراده في وحدات اجتماعية أدناها الأسرة وهي اللبنة الأولي لتكوين المجتمع الإسلامي وأعلاها الأمة بمفهومها الديني والقيمي الشامل؛ يعرف محمد رشيد رضا (مجلة المنار (441/23)) الأمة "مجموع أفراد من عنصر واحد، ولغة واحدة، وحضارة واحدة، أُولي إرث تاريخي شامل عام، وشعور بإرادة تأليف جماعة سياسية واحدة".

ولتحقيق مفهوم الأمة الشامل الذي يراه رشيد رضا ينبغي بناء العقل الإسلامي للفرد بشكل صحيح بعيدا عن النموذج الغربي في البناء العقلي؛ حيث أن النموذج الغربي نموذج معاديا لمفهوم الأسرة القيمي ويتعامل معها على أنها وحدة استهلاكية لا أكثر بل ويعمل على تدمير مفهوم الأسرة لتفضيلها التعامل مع الفرد كأصغر وحدة بناء؛ ومنظومته تبني الفرد في إطار علاقة ثنائية بين الفرد والمجتمع ويخرج الإله من المعادلة أو على الأقل يجعل مساحة الإله في إطار علاقة بين الفرد والإله وينحي تماما الله خارج علاقة الفرد بمجتمعه وبالتبعية إنهاء علاقة المجتمع بالله مما أنتج غيابا كاملا لمجموعة من القيم الرئيسية بالمجتمع؛ ويقول ديفيد هوكس في كتابه الأيديولوجية ص 9 " إن مجتمعنا الأن منغمس بعمق في العقلية الاستهلاكية بدرجة يصعب معها رؤية أي شيء مؤذ في آلاف الرسائل المتجمعة التي نتعرض جميعا لها قسرا كل يوم.".

على العكس؛ يبني النموذج الإسلامي العلاقات الثلاث بشكل متكامل وهي علاقة الإنسان بالله وعلاقة الإنسان بالمجتمع تحت إطار شامل يحدد علاقة المجتمع بالله؛ وفي غياب أي منها يتشوه مفهوم المجتمع الإسلامي؛ كما أن فكرة الأمة المتجاوزة لحدود الجغرافيا والعِرق وتتمحور حول وحدة الدين والمرجعية هي فكرة إسلامية خالصة تكسر عولمة الغرب التي تريد التعامل فقط مع أصغر وحدة بنائية للمجتمع وهي الفرد؛ فهي عولمة ضد الجميع ولصالحه فقط.

لذا يصبح الإنسان المتوافق مع النموذج هو لبنة البناء للمجتمع الإسلامي؛ وإعداده في إطار النمط المجتمعي المتماهي مع الأهداف الغربية يجعل من المستحيل تبنيه لاحقا للنموذج الإسلامي لبناء المجتمع والأمة؛ ولهذا يصبح من الخطر الاستعانة بأنماط تشكيل الوعي كونا عن محتواها، وفي حالة الهزيمة الحضارية التي نعيشها؛ تحكم النموذج الغربي في صناعة العقول سواء بأنماط أو محتوي يتناقض مع أهداف نموذج المجتمع الإسلامي، مما يجعلنا نتوقف كثيرا عند أدوات ومفهوم تربية الإنسان المسلم ومحاولة قراءة الخلل الحالي وكيفية علاجه.

ويأتي الاختلاف الرئيسي بين النموذج الإسلامي والنماذج الأخرى في تصور المحتوى الفكري للفرد؛ ويذكر د عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية أنه بينما يرى النموذج الغربي الإنسان صفحة بيضاء عند ولادته بالتالي يتحقق المحتوى الفكري له عن طريق مدخلات مجتمعية؛ بينما يرى النموذج الإسلامي أن الإنسان لا يولد صفحة بيضاء وهناك مدخلات قبليه "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون" الأعراف (172-174). 

ويحدث الانحراف عندما يكون التراكم المعرفي للفرد غير متوافق مع المدخلات القبلية مما يؤدي إلى طمسها تحت وطأة المعرفة الجديدة." إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة وَلَهُمْ عَذَاب عظِيم" البقرة (4-6). التراكم المعرفي غير المعتمد على المدخلات القبلية "الفطرة" يؤدي إلى غيابها في تشكيل الوعي والمحور الرئيسي في بناء الوعي بناء على المقدمات القبلية هو القرآن الكريم "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا" محمد 34. إن عدم الاهتمام بالمرجع الرئيسي في استكمال تشكيل الوعي يؤثر سلبا على المدخلات القبلية حتي تتواري وتختفي ويتحول الإنسان إلى مُنتَج للمدخلات المادية الموجودة بالعالم فقط.

فعند ضبط نمط التعلم مع الأفكار الكلية المرجوة نصل إلى الهدف المرجو في بناء الإنسان المسلم المتوافق فكريا مع المجتمع المسلم المراد بناؤه، أما حالة التناقض الجوهري بين نمط التراكم المعرفي المتماهي مع الشكل الغربي وبين محاولة إنشاء نموذج إسلامي فلن يسمح هذا التناقض بذلك مهما كانت المحاولات. 

ولضبط ذلك التناقض لابد من العودة إلى استكمال الفطرة النقية بمكملها الإلهي في الدنيا وهو القرآن الكريم لأنه القادر على ضبط العقل والروح على موجة تحمي من الاختراقات الفكرية العنيفة وتكون حائط صد دائم ضد محاولات تدمير بنية الإنسان الروحية والنفسية التي احترفتها الحضارة الغربية.

إن القرآن الكريم ليس فقط وسيلة للتعبد ولكنه يحمل منهاجا كاملا لحياة البشر وتكون آياته وأحكامه عند الإصرار على تعلمها في سن مبكر هو مُنقِّي فكري وروحي لأي خلل في أي مدخلات مادية علمية بعد ذلك. إن غياب روح القرآن الكريم عن عقول العلماء يؤدي إلى حالة من انفصال العلم عن القيم، ما يؤدي في النهاية إلى أن يطلق العالَم الرصاص على قدميه.

وإذا كانت الحضارات الأخرى تري أن هذا لغوا؛ فعلينا نحن أصحاب القرآن أن نستعيد مرة أخرى أحد أهم مقومات الحضارة الإسلامية وهو بناء عقل ووعي الشخصية المسلمة باستكمال البناء النفسي لأطفالنا بالقرآن الكريم وأن يكون هو الحامي والمانع لأي انحراف فكري للعقل الجمعي للمجتمع. فنحن لا عز لنا إلا به وبناء الفرد المسلم يبدأ بالقرآن فيكون هو درع الله له ضد الفساد والانحراف ووسيلته لرؤية غاية الحياة وغاية الموت 

ذكر الإمام بن حجر رحمه الله في كتاب الإصابة في معرفة الصحابة في ترجمة عمير بن أبي وقاص أخي سعد بن أبي وقاص عن سعد قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله يوم بدر يتوارى فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة. قال: فعرض على رسول الله فاستصغره فرده فبكى، فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة. 

هؤلاء أولاد ورجال القرآن؛ فيجب علينا التمسك بإعادة تعليم القرآن للأطفال وتحفيظهم إياه قبل دخولهم إلى المدارس كما كان يحدث سابقا؛ تلك المدارس التي لم يستطع العقل الإسلامي استخدامها بما يتوافق مع مشروعه واستوردها كما هي من حضارة أخرى دون إدراك لخطورة تأثيرها على العقل الجمعي للمجتمع.

الحياة مع القرآن هي حجر الزاوية لكل مسلم؛ فالقرآن هو روح الأمة وقلبها النابض ويحفظ عندما يكون مكانه القلوب وليس في الجيوب.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع