كتاب عربي 21

من أنتِ؟ هم الكلاب..

1300x600
داخل أستوديو القناة الثانية المغربية، وخلال برنامج كان مخصصا للتعليق على نتائج الانتخابات المحلية والجهوية الأخيرة بالمغرب، وبينما كان السيد إدريس الأزمي، من حزب العدالة والتنمية، يسترسل في اعتبار انتخابات 2015 محطة ديموقراطية جاءت لتمسح "عار" انتخابات 2009 التي تميزت برغبة تكريس التحكم من خلال التمكين لحزب كان وقتها وافدا جديدا على الساحة، لم تجد السيدة خديجة الرويسي، من حزب الأصالة والمعاصرة، إلا أن تقاطع غريمها بداعي تصحيح المغالطات التي جاءت في تدخله.

لا شيء يستدعي في المشهد اهتماما خاصا خصوصا أنه جاء مباشرة بعد إعلان النتائج بما شكلته من انتشاء بـ"الفوز" لدى البعض وامتعاض لدى آخرين. لكن النقاش زاغ عن سكة الحوار الديموقراطي، وطُرِح السؤال: من أنتِ حتى تسمحي أو لا تسمحي؟

أمام كاميرا فريق تلفزيوني، يجلس رجل مجهول الهوية ليجيب عن سؤال.

الصحفي: شكون إنت؟ (من أنتَ؟)

الرجل مجهول الهوية: أنا من مواليد الدار البيضاء. ولدت سنة 1950. متزوج ولي أربعة أطفال. كانوا ينادونني في الحارة "الزهواني". وفي الحالة المدنية كان اسمي.. لا أتذكر اسمي. أنا الرقم التسلسلي 404. ابني لم يكن مجدا في دراسته فوعدته بشراء دراجة جديدة فاجتهد ونجح. اشتريت له دراجة جميلة لكنه لم يستطع ركوبها. كان يسقط دوما فقررت أن أشتري له عجلات مساعدة. عندما خرجت يومها كانت كل المحلات مغلقة. كان يوم إضراب عام. أحدهم صورني من أعلى بناية ثم اعتقلوني وأخفوني قسرا.

كان هذا مشهدا من فيلم للمخرج المغربي هشام العسري، أنتج في العام 2013 واتخذ من تظاهرات 20 شباط/ فبراير، الطبعة المغربية من "الربيع العربي"، خلفية لأحداثه، وعنوانه كان: هم الكلاب.

خديجة الرويسي لها أخ من هؤلاء، اختفى في زمن ما يسمى بسنوات الرصاص ولا يزال مصيره مجهولا إلى اليوم، تعددت الروايات عن أسباب اختطافه من كونها بعلاقة مع نشاطات سياسية إلى مجرد خلاف مع مسؤول أمني على فتاة. لكن الأكيد أن قضيته لا تزال موضوعا عالقا حتى حين.

في أولى مشاهد الشريط التقى الفريق التلفزيوني بالرجل مجهول الهوية وهم يحاولون تغطية إحدى مظاهرات 20 شباط/ فبراير، والتغطية هنا أقرب إلى تغطية الحقيقة وإخفائها من المعنى الدارج للتغطية الصحفية. وعلى وقع شعارات الشباب كان اللقاء:

الجماهير تقول، الجماهير تقول
الحل الوحيد من كل الحلول
اسمع لولاد الشعب، اسمع لبنات الشعب
تغيير الدستور
تحرير القضاء
تحرير الإعلام
إسقاط النظام..

انتهى الأمر بتغيير الدستور بعد خطاب ملكي في التاسع من آذار/ مارس عرف كيف يمتص حماسة وحرارة الحراك. والنتيجة وصول حزب العدالة والتنمية "الإسلامي" إلى قيادة تحالف حكومي من أربعة أحزاب خرج منها حزب الاستقلال بقيادة حميد شباط ليعوضه حزب التجمع الوطني للأحرار في أول تعديل حكومي. أما حزبي التقدم والاشتراكية ذو التوجه "الشيوعي" وحزب الحركة الشعبية الذي لا توجه معروف لديه فقد بقيا وفيين للتحالف الأولي.

بعد أربع سنوات كانت محطة انتخابات 2015.

مع بداية الحملة الانتخابية تم تسريب مكالمة هاتفية للمنسق العام لحزب الحركة الشعبية محمد أوزين، الذي كان وزيرا في حكومة عبد الإله ابن كيران قبل أن يُطلب منه مغادرة السفينة بعد تدخل ملكي في ما عرف بفضيحة "الكراطة" بملعب الأمير مولاي عبدالله، يتحدث فيها عن منطق فاسد في تكوين لوائح المرشحين للانتخابات قبل أن ينهي الأمر بوصف الناخبين بكونهم "أولاد عاهرات".

كان تبرير الوزير السابق أنه من أبناء الشعب وبلغتهم يتحدث. لم يعلم أن ما قام به ليس حديثا بلغة الشعب بل "قلة أدب" في الحديث.

وفي خضم الحملة كتب وزير التجهيز والنقل واللوجستيك السيد عبد العزيز الرباح، الذي حصد بالمناسبة غالبية مقاعد مدينة القنيطرة، تدوينة وصف فيها عددا من الصحف بالكذب باعتبارها "تنشر لقطات لبضعة أشخاص منهم مراهقون يرفعون شعار إرحل في تجمعاتنا التي تضم الآلاف.. هناك من رضي أن يكتب عن القافلة التي تسير، وهناك من رضي أن يكتب عن الكلاب التي تنبح، ولا يحتفظ التاريخ إلا بقصص القوافل وليس بنباح الكلاب"، والتبرير المقدم في وصفه مواطنين بالكلاب أنه لم يفعل غير استلهام مثل عربي قديم.

أما نجل الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، فلم يجد للرد على الهزيمة المدوية لوالده غير بيتين شعريين للإمام الشافعي:

تأسفن على غدر الزمان لطالما
رقصت على جثثت الأسود كلاب
لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها
تبقى الأسود أسودا والكلاب كلابا.

هم الكلاب..

الصحفي: ما رأيك في الربيع العربي وفي حركة 20 شباط/ فبراير والاحتجاجات؟

حارسة السيارات الشابة: شوف أخويا، بنادم غا طالقها تسرح. راه ما كاين والو. فهمتيني. وحتى هما يالله كي بغيو يديرو حاجة حتى كيوقف عليهم البوليس. شفتي هاد البلاد غا تاع البيادق والضحايا وخوروطو وبوقملة والهمج. النص تاع الناس بوليس والنص (تمرر يدها على مكان الذقن). شوف ما تيقش راه ما طاري والو. غير الهضرة..

زميلها (وهو يقاطعها بعنف): سكتي لإمك. باغيا تخرجي علينا. شوف عاش الملك، عاش الملك ولي بقا كلشي قوا..

والمعنى، أن لا شيء يحدث. هذه بلد ملأى بالبيادق وضحايا النصابين والهمج. نصفهم شرطة والنصف الثاني أصحاب ذقن. لا تثق فكل هذا مجرد كلام.

وجواب الزميل: اخرسي. ستتسببين لنا في مشاكل. عاش الملك، والبقية مجرد وسطاء دعارة.

انتهت الانتخابات وظهرت النتائج وبدأ خطاب "يعاير" فيه الفائزون في المناطق الحضرية أبناء البوادي بالجهل والتصويت على الأشخاص بدواعي قبلية وعائلية مقابل طبقة وسطى مدينية تعتمد البرامج معيارا.

والعالم بالتقطيع الانتخابي يعرف أنه بالإضافة إلى أحزمة البؤس المحيطة بالمدن ممثلة في مدن الصفيح وما شابهها، وهي الخزان الأكبر للأصوات، ليس هناك من دوائر مدينية خالصة حيث أن "ترييف" المدن المغربية أمر اشتغل عليه مهندسو الدوائر منذ عهود ولا يزالون.

خلال الإضراب العام لسنة 1981 بالدار البيضاء، الذي اتخده فيلم "هم الكلاب" زمنا مسترجَعا لأحداثه، ظهرت أغنية ثورية تحكي حوارا بين أم وجلاد:

الجلاد: كيقولك الحاكم ولدك ما قرا والو.. يتربى يرجع لحالو.. انت ما ربيتو والو/ يقول لك الحاكم ابنك لم يتعلم شيئا، سنعيد تربيته وبعدها يعود إليك، لم تنجحي في تربية ابنك.

تدافع الأم عن ابنها: ولدي يا سيدي مقرياه أنا.. ولدي فلاحا ولدي عمال.. ولدي دهكون، ولدي عمر.. ولدي سعيدة، ولدي زروال.

عمر دهكون من التيار الثوري للاتحاد الوطني للقوات الشعبية نفذ فيه حكم الإعدام يوم عيد أضحى وهو ابن السابعة والثلاتين، عمر بنجلون قتل أمام مقر جريدة المحرر الاشتراكية، سعيد المنبهي من منظمة إلى الأمام الماركسية ماتت في إضراب عن الطعام وهي لم تتجاوز الخامسة والعشرين ربيعا، وعبد اللطيف زروال من المنظمة نفسها قضى تحت التعذيب. وفي اللائحة آلاف المعتقلين والمختفين والقتلى والمعطوبين وسجون ومعتقلات سرية وعلنية سيئة الذكر.  

كل هذا من أجل ماذا؟

كان هذا سؤال ابن الرجل مجهول الهوية، الذي صار بطلا لسباق الدراجات، في أول لقاء يجمعه بـ"أبيه" بعد أن سلمته الأم شهادة وفاته وبعد أن وقف على قبره وهو "حي" يرزق. جلسة مصارحة اختار المخرج بذكاء ألا يسمعنا منها غير شذرات، والذريعة حاجة مسجل صوت الفريق الصحفي لبطاريات جديدة.

كل هذا من أجل ماذا؟

من أجل صور بصالات وردهات مؤسسات حزبية ورسمية تقتات من ذاكرة نضالية تحولت إلى رأسمال رمزي في سوق النخاسة السياسية للمتاجرة وحصد الوظائف والمقاعد والأصوات.

في مشهد سابق، وفي إطار استرجاعه لذكرياته النضالية وبحثه عن أولاده وزوجته يلتقي الرجل مجهول الهوية برشيد دخان، زميل نضال سابق صار صحفيا بارزا.

الرجل مجهول الهوية: قالوا لي أنك قلبتي "الفيستة" / (المعنى أنك قلبت المعطف أي انقلبت على مبادئك).

لم يجب رشيد دخان بل طلب من الفريق الصحفي الخروج وأغلق عليه باب المكتب ليبقيا وحيدين في مواجهة بعض.

الرجل مجهول الهوية: ألا تملك معلومات عن أطفالي وزوجتي؟

رشيد دخان: ابنك صار بطلا لسباق الدراجات.

الرجل مجهول الهوية: لم تجبني. هل صحيح أنك قلبتي "الفيستة"؟

رشيد دخان: عييت ما نناضل وعييت ما نتقاتل وفي الأخير لقيت راسي "نوتة خاطئة".

الرجل مجهول الهوية: ما جيتش نحاسبك. بغيت غير نعرف فين مشا رشيد دخان؟ فين مشا النضال والتقدم وداكشي تاع ماركس؟

رشيد دخان: أنت تعتقلتي في إضراب 81، أليس كذلك؟

الرجل مجهول الهوية: نعم، ومن بعد؟

رشيد دخان: أتعرف الأسباب وراء ذلك الإضراب؟ زيادة في ثمن السكر بـ50% والدقيق 40% وفي الزبدة 74%. هل ترى أفكارا ثورية في هذه الفاتورة؟ البطن هو الذي يدفع الناس للثورة. وأنت اليوم تتفاخر علي بكونك دخلت السجن..

انتهى المشهد بطرد الرجل مجهول الهوية من مكتب رفيقه السابق في النضال والثورة.
 
طوال المشهد كان رشيد دخان معلقا بأنبوبة أوكسجين وكأنه يحتضر كما هذا اليسار الذي باع المبادئ وقلب "الفيستة" متنكرا للقوات الشعبية نظير امتيازات وريع انتخابي ومناصب في الإدارات والوزرات.

لم تكن انتفاضة الدار البيضاء لسنة 1981، التي وصفها وزير الداخلية وقتها إدريس البصري بانتفاضة "الكوميرا" (الخبز)، رغبة منه في إفراغها من مضمونها السياسي ولم يسعفه القدر ليعيش حتى يرى شبابا خرجوا في دول عديدة و"أسقطوا" عروشا وهم يتباهون بشعار أوله خبز ووسطه كرامة وآخره عدالة اجتماعية.

لم تكن انتفاضة 1981 الأولى ولم تكن الأخيرة حيث عرفت مراكش انتفاضة "الأوباش" في العام 1984، ومدينة فاس إضرابها العام الشهير في كانون الأول/ ديسمبر 1994.

حميد شباط الذي قضى عليه إدريس الإزمي انتخابيا لدرجة أن ابن كيران أعاد ترديد مستملحة أطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي مفادها أن "إدريس الأول فتح مدينة فاس، وإدريس الأزمي حررها" في قفز على تاريخ المغرب ونضالات رجاله، كان "زعيما" للإضراب العام بفاس. والمدن الثائرة فاس ومراكش والدار البيضاء مدن سيحكمها حزب العدالة والتنمية وفق ما أسفرت عليه نتائج الانتخابات!

في أواسط سبعينيات القرن الماضي، أصدرت مجموعة "لمشاهب" المغربية أغنية بعنوان "داويني" يقول جزء من كلماتها:

والعفو يا بابا واش الحق يزول
القلوب الكذابة نساونا فالمعقول
واحيدوه واحيدوه واحيدوه / والمعنى بلغة "الربيع العربي" مرادف لـ"ارحل ارحل ارحل"

لكن اللازمة تغيرت بعدها لتصير الأغنية المتداولة:

وأحيدوس أحيدوس أحيدوس..
أحيدوس رقصة من رقصات الفلكلور المغربي.
الرابحون هم بالفعل من انضموا في السابق كما الحاضر لرقصة "أحيدوس" السياسية وتماهوا مع النغمات.

هم الكلاب ويا ليتهم كانوا بوفاء الكلاب..
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع