في منتصف السبعينيات مناورة التخرج بالذخيرة الحية نحو أسبوع، وكان موضوعها تطهير منطقة جبلية يتحصن فيها متمردون محليون خرجوا عن سلطة الحكومة المركزية. تبارينا نحن الضباط الصغار في الدورة في استخدام مختلف التكتيكات العسكرية المتاحة للقيام بهذه المهمة، بعد انتهاء المناورة اجتمعت الدورة في مكان صحراوي قريب من مكان المناورة. فوجئنا بأن المكان قد أعد وكأنه صالة طعام لفندق فاخر، احتوت الكراسي الوثيرة وأصنافا من الأطعمة والمشروبات الباردة الشهية، بعد أسبوع من التعب والإنهاك وعدم النوم، وكأننا كنا في حرب حقيقية. ألقى قائد الكلية كلمة أثنى فيها على جهودنا وأساليب قتالنا واعتبر أننا أتقنا ما تعلمناه من حرفية عسكرية. لكنه أضاف، أن علينا عدم التوهم بقدرتنا على تحقيق انتصار نهائي في مثل هذه المعارك الداخلية، والتي يحظى أطرافها بدعم من حواضن شعبية، ولهم مطالب اجتماعية أو سياسية، إذ إن النصر الحقيقي لا يتحقق إلا عبر تسويات سياسية لإنهاء المشكلة من جذورها.
على الفور قادني هذا الكلام إلى تذكر الحرب الأهلية في لبنان، والتي كنا وما زلنا نعاني من ذيولها. كم من مرة اعتقد كل طرف في النزاع أنه على وشك تحقيق نصر حاسم ونهائي على الطرف الأخر. ألم تقتنع بذلك المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية عندما وصلت قواتها إلى عيون السمان وأعالي صنين. أولم يظن المعسكر الثاني أنه على وشك الانتصار عند دخول الجيش السوري إلى لبنان، واشتباكه مع المقاومة والحركة الوطنية في الجبل والمتن. ألم يأتي الشيخ بشير الجميل رئيسا على لبنان، عبر وقع نيران الدبابات الإسرائيلية وتأثيرها على موازين القوى فيه، 14 سنه كاملة من الاقتتال بين شطري الوطن اللبناني، وفي داخل الشطر الواحد، قتال بين اليمين واليسار، ومع المقاومة الفلسطينية، عززته حواضن طائفية وأصبح لكل طائفة جيشها، ليمتد القتال إلى داخل الطائفة الواحدة والحزب الواحد، ضمن اعتقاد كل طرف، نتيجة لتحقيقه إنجازات محدودة، أنه قادر على حسم الحرب على مستوى الوطن، أو ضمان استمرار النفوذ ضمن جزء منه. دون أن يتمكن أحد من الحسم النهائي، لا على مستوى الطائفة ولا على مستوى الوطن، إلى أن جاء اتفاق الطائف سنة 1989 ليوقف الاقتتال الداخلي، ويضع قواعد جديدة للعملية السياسية، لا نعلم إلى أي مدى تدوم وتستمر على وقع المتغيرات الإقليمية المتلاحقة.
قديما أيضا عالج فقهاء المسلمين هذا الأمر، وتطرق له الماوردي والجويني والغزالي وغيرهم في عصور مبكرة. حين وضعوا شروطا قاسية للخروج على الحاكم الظالم، إذ شغلت وحدة الأمة في تفكيرهم، وعدم تفتتها أو استنزافها مما يضعف شوكتها في مواجهة العدو الخارجي، مرتبة أهم من تغيير حاكم ظالم، مالم يكن رواد التغير ودعاته، واثقون من قدرتهم على الإطاحة بالحاكم، ضمن الحفاظ على وحدة جمهور الأمة وأرضها، وضمان خروجها أكثر قوة ومنعة. أي بلغة العصر، على قوى التغيير أن تدرك حقيقة موازين القوى، وطبيعة المجتمع وتنوعاته العرقية والطائفية والجهوية والاجتماعية، وموقف الجيش والقوى الأمنية وتركيبتها، إضافة إلى تأثيرات الوضع الإقليمي والدولي، واختيار الظروف المناسبة والمواتية للثورة والتغيير. فهنا الظلم والاستبداد والنوايا الطيبة للثوار والمعايير الأخلاقية والمبدئية، لا تكفي وحدها لإحداث التغيير المنشود، فنحن لسنا بصدد قضية أخلاقية ومبدئية فحسب، بقدر ما يتوجب علينا السعي إلى تحقيق الغايات من الثورة، و إنجاز النصر عبر اختيار التوقيت المناسب والظرف الملائم، وحشد كل العوامل والقوى التي تساعد على إحداث التغيير المنشود. ولعل هذا ما يفسر فشل عشرات الثورات عبر التاريخ رغم عدالة قضيتها.
ويلاحظ هنا أن هذه الفرضية تنطبق أساسا على الثورات الداخلية والتي تستهدف تغيير نظام في بلد ما أو الانقلاب علية. ولا تشمل مقاومة الاحتلال أو الاستعمار والغزو الأجنبي. وما يميز الحالة الثانية عن الأولى، هو أن قوى المقاومة تنمو فيها من خلال استمرار المواجهة مع المحتل، وتستقطب في كل يوم قواعد جديده، ولديها القدرة على توحيد مجموع الأمة ضمن هدف تحرير الأوطان. أما في المثال الأول فإن اصطفاف القوى يبدوا واضحا منذ الأيام الأولى، وتزداد هوة الانقسام بينهما مع ازدياد حدة الصراع. وقد يمتد الانقسام إلى داخل كل معسكر.
وحتى ننتقل من الإطار النظري للإطار العملي، دعونا نتأمل أولا وبإيجاز شديد، تجارب حديثة ناجحة في التغيير ضمن ما عرف بالربيع العربي، قبل أن ننتقل إلى استعراض تجارب أخري، ما زال كل طرف فيها يحاول إبراز قدرته على تحقيق حسم نهائي، غابت ملامحه عن الأفق القريب.
نجحت الجماهير الشعبية في مصر وتونس في الإطاحة بنظام الحكم فيهما ويعود سبب هذا النجاح إضافة إلى الحراك الجماهيري الواسع وإلى تجاوزات النظام التي أزكمت رائحته الأنوف، واتساع دائرة الفساد، واستعداء النظام لقوى كانت في صفه سابقا، إضافة إلى عوامل رئيسية أخرى، منها عدم وجود حواضن جهوية أو طائفية للنظام، وانحياز الجيش للتغيير تحت تأثير المطالب الشعبية، أو خشية من تضاؤل نفوذه في الحياة السياسية العامة وتضرر مصالحه في ظل أجواء الوراثة التي شاعت، وعدم قدرة القوى الدولية أو الإقليمية على التدخل.
تأثرت معظم الدول العربية بالإنجازات التي تحققت في تونس ومصر، وظن البعض أن رياح التغيير ستجتاح بلاده بذات السرعة التي انطلقت فيها عاصفة الربيع العربي، دون إدراك منهم لاختلاف الموازين وطبيعة الأنظمة والقوى المساندة لها داخليا وخارجيا. وفي ذات الوقت ظنت هذه الأنظمة بما تمتلكه من أجهزة أمنية قوية، وخبرة واسعة في القمع والاستبداد وإسكات كل صوت معارض، أنها قادرة على دفن هذه الحراكات في مهدها، كما فعلت في الماضي مع هبات سابقة. وفي هذا السياق تروي بعض المصادر قصة عن اجتماع تم مع الرئيس بشار الأسد، واقترحت فيه بعض منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية على الرئيس الأسد القيام بجهود وساطة لحل الأزمة، وهي في بداياتها، وقد وافق الأسد على ذلك، لتفاجأ هذه الأوساط باتصال يأتيها في اليوم التالي من الخلية الأمنية، يعلمها بوقف الاتصالات، لأن ثمة قرارا قد أتخذ بحسم الأزمة أمنيا.
على مدار الحرب السورية توهم كل طرف في لحظة ما أنه قادر على تحقيق الحسم العسكري النهائي في غضون أسابيع أو أشهر معدودة. وكلما حقق أحد الأطراف إنجازا على الأرض، حتى بادره الطرف الآخر بإنجاز مقابل في منطقة أخرى، إلى أن باتت أسماء جبهات القتال مألوفة لدى المشاهد العربي الذي يتابع عمليات الكر والفر، من القلمون إلى عرسال وريف دمشق ودرعا وحلب وسهل الغاب، دون أن يتمكن أحد من قلب موازين القوى تماما لصالحه، مع ما رافق ذلك من عشرات الآلاف من الشهداء، وملايين المهجرين داخل وخارج الأرض السورية ونفوذ متزايد للقوى الإقليمية والكبرى والتي باتت تتحكم في مجريات الأمور وفقا لمصالحها ورؤيتها.
في اليمن السعيد تكررت الحكاية، زحف الحوثيون على صنعاء بذريعة مطالب تتعلق بأسعار المشتقات النفطية وتطبيق الاتفاقات السابقة، وعندما سقطت صنعاء بسهولة في أيديهم، ظنوا واهمين أن اليمن بأسره قد أصبح تحت سيطرتهم، فقاموا بالزحف على عدن واحتلالها. لم يدركوا أنه في ظل التعقيدات اليمنية الداخلية بين شمال وجنوب وقبائل ومذاهب، والظرف الإقليمي المحيط بهم، صعوبة أن يمر مثل هذا الفعل دون تأليب القوى المحلية والإقليمية ضدهم. فكانت عاصفة الحزم وتشكيل قوات التحالف التي دعمت الرئيس هادي، واختل ميزان القوى العسكري مجددا، وتم استعادة الجنوب اليمني والزحف على أجزاء من الشمال والتهديد باحتلال صعدة وصنعاء. إلا أن مجمل هذه العمليات العسكرية، وما قد يتحقق فيها، لن تكون قادرة على حسم الأمور بشكل نهائي في اليمن، الذي سيشهد جولات من الكر والفر. لن تنتهي إلا عبر الوصول إلى توافق سياسي بين مختلف المكونات اليمنية ويحوز على رضى وقبول الأطراف الإقليمية.
لن يتسنى لهذا المقال شرح تعقيدات الأمور في العراق وليبيا أيضا، لكنها من حيث الجوهر واحدة، كما هو الحال في سوريا واليمن، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها الفرعية. لن يستطيع الحشد الشعبي والجيش العراقي أن يلحق نصرا حاسما ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش)، مالم تتم المصالحة بين كافة مكونات الشعب العراقي. ويلاحظ هنا أن المستفيد الرئيس من هذه الحروب الداخلية، ومن سياسات الإقصاء والاستبداد، هي التنظيمات المتطرفة من داعش والنصرة في سوريا والعراق، إلى القاعدة التي باتت تحتل وتدير محافظات بأكملها في اليمن. بل يمكن القول أنه تم سرقة أحلام وطموحات الشعب في هذه الدول بالتغيير والحرية على أيدي هذه التنظيمات التي نبتت ونمت في غمار الحرب، وأصبحت أحد علاماتها الرئيسة.
ثمة ظروف إقليمية جديدة تشجع على التوصل إلى تسويات، أبرزها المتغيرات في السياسة السعودية، وعاصفة الحزم، والاتفاق النووي الإيراني الأمريكي، والتطورات التركية الأخيرة. وتزايد قناعة الأطراف الإقليمية والدولية بصعوبة تحقيق حسم كامل في أي من هذه الدول، مما يفتح المجال واسعا للإقدام على خطوات سياسية لحل هذه الأزمات. ومن هما ينبغي النظر إلى أن ما يحدث من تطورات على الأرض، تدخل ضمن إطار تعزيز المواقع للأطراف المتقابلة قبل الولوج إلى بوابات المعركة السياسية.
إن عدم إدراك طبيعة هذه الحروب الداخلية، وتوهم أي من أطرافها بإمكانية تحقيقه لحسم عسكري نهائي، وسيطرته وحده على مقاليد الأمور، وإقصاء الأطراف الأخرى تماما، سيقود إلى مجموعة من السياسات الخاطئة على المستويين العسكري والسياسي، وسيؤدى إلى مزيد من الخسائر واستنزاف القوى في معارك تكتيكية لا أثر لها على المستوى الاستراتيجي. لكن الجانب الأكثر خطورة هنا يكمن في أن ذلك سيكون بمثابة وصفة جاهزة للتقسيم، حين تنعدم مبادرات الحل السياسي أو يتم مواجهتها بالرفض المطلق، ويشعر كل طرف بقدرته على التمترس في المناطق التي سيطر عليها، مع ضعف القدرة على تحقيق إنجازات واسعة على المستوى العسكري، فينصرف باتجاه تعزيز دفاعاته وتحصين مناطقه، والقيام بإدارتها على المستوى المعيشي، مما يوفر الأرضية المناسبة للاستمرار في هذا الحال، وصولا إلى التقسيم خصوصا أذا تطابق ذلك مع مصالح دول وجماعات إقليمية أو كبري. كما يجب هنا أن لا نغفل عن السياسات الصهيونية والغربية التي تشجع على استمرار حالة القتال الداخلي وترعى المزيد من الانقسام والتفتيت في الجسد العربي.
لا يعني الحديث عن عقم الحل العسكري وحتمية الحل السياسي اللجوء، إلى أي حل لا يراعي طبيعة الإشكال القائم، وحق الشعوب في الحرية، بعد التضحيات الكبرى التي قدمت، بقدر ما يهدف إلى تسليط الضوء على الأفق الاستراتيجي لهذه الصراعات، بغية الوصول إلى أفضل الأساليب والتكتيكات للوصول إلى أهداف واقعية وقابلة للإنجاز، وتحافظ على مكونات الوحدة الداخلية للشعب. إذ يستحيل القول بحل يستبعد المكون الشيعي أو السني في العراق، أو الزيدي في اليمن. وعلى العكس من ذلك ينبغي لأي حل سياسي أن يراعي صهر هذه المكونات في بوتقة وطنية واحدة. كما أن السياسات التي ستستخدم في إطار هذا الصراع سيكون هدفها وسقفها، الوصول إلى أفضل معادلة ممكنة بين الأطراف المختلفة.
في حوار مع صديق حول ذات الموضوع، وبعد أن جلنا على كل جوانبه، قال لي غاضبا: ولكن كيف سنتفق وقد استشهد لنا أكثر من 200 ألف شهيد. قلت له: حتى لا نجلس في السنة القادمة فنجد 400 ألف شهيد وبقايا من وطن متناثر.