في إطار "استرجاع الدولة فلوسها" (نقودها) قامت حكومة
السبسي هذا الأسبوع ببث تجريبي، تمثل في بيع 27 سيارة من سيارات بن علي بقيمة مليار ومئتي مليون بمعدل 44 مليون من المليمات
التونسية للسيارة الواحدة. أي ربما بقيمة سيارة "شعبية" للواحدة. بث تجريبي للمصالحة. للإشارة بقيت هذه السيارات الفاخرة طيلة السنوات الفارطة تخضع للصيانة، حتى لا تتراجع قيمتها إلى حين انتخاب المؤسسات الدائمة والخروج من المرحلة المؤقتة وإمكانية التصرف فيها.
وتحت العنوان ذاته "استرجاع الدولة فلوسها" يتم الترويج لقانون التطبيع مع
الفساد المسمى "قانون
المصالحة الاقتصادية".
في المقابل ينغمس البعض في قضية، مهمة لا شك وهي "عزل الأئمة" بشكل متعسف وعشوائي، للتغطية على التواطؤ في تمرير الفساد.
لا يمكن الا الاتفاق مع تيارات الإسلام السياسي، بما في ذلك
النهضة في رفض سياسة وزير الشؤون الدينية في حكومة الرباعي (التي تشارك فيها) في عزل الأئمة على أساس القرابة (وليس حتى الانتماء) السياسية.
ذلك ليس مضرا فقط بالسياسة الدينية، بل أيضا وخاصة بسياسة مقاومة الإرهاب، التي بذريعتها يتم عزلهم. لكن المعضلة التي لا يمكن أن نتجاهلها هي لما تحرص هذه الأطراف وعلى رأسها حركة النهضة على رفض هذه السياسة، مقابل تعاملها ببرود بل بشكل سلبي مع موضوع آخر: عزل الفساد. وذلك موضوع الساعة بما أن المبادرة الأساسية التي تدعمها النهضة للقائد العام للقوات المسلحة، رئيس الجمهورية، ليست قوانين تقوي مكافحة الإرهاب مثل قانون طوارئ جديد، بل هو قانون وصفته حتى "الفاينانشال تايمز" هذا الأسبوع بأنه تطبيع للفساد. بما يعني أن أحد المنابر الأساسية في العالم للتشجيع على الاستثمار قوضت في مقال واحد، أي إمكانية جدية للاستثمار في ظل هذا القانون.
علاقة الاحترام التي كانت لدي عبر محطات تسبق الثورة لكثير من ناشطي ورموز الإسلام السياسي التونسي، ومنذ كنت ناشطا طلابيا في الجامعة في التسعينيات، كانت دائما علاقة الناشط اليساري الاجتماعي العروبي الذي يرى أن الإسلام السياسي مكون طبيعي وأساسي في الساحة التونسية وأن محاولات استئصاله عبثية وتضيع الوقت على تأسيس الديمقراطية التونسية. وأخيرا انتهت التيارات الهستيرية "النمطية" التونسية التي قادت لعشريتين حملة الاستئصال و"تجفيف المنابع" وعبر التصويت "النافع" إلى التحالف وليس مجرد التعايش مع الإسلام السياسي، وهو الأمر الذي كانت تؤاخذه علينا وتعتبره "خيانة" للدولة المدنية عندما كنا نؤسس للديمقراطية الجديدة.
تبين الآن أن شرط هذه القوى "البورقيبية" لقبول الإسلام السياسي، يتمثل تحديدا في قبوله التغطية على مسار ديمومة المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للأقلية الأوليغارشية وحكم اللوبيات وتطييع الفساد.
لنكن واضحين، سياسة السبسي في عزل الأئمة العشوائي مضرة. لا يتم فقط عزل الأئمة على أساس القرابة السياسية وبمعزل عن مدى إمكانية مساهمتهم في مقاومة الإرهاب وتحييد شباب متدين عن التيارات العنيفة والمعادية لدولة القانون والمؤسسات. بل يتم تقويض بعض المكاسب مثل معهد الأئمة الذي بدأ مع وزير الشؤون الدينية السابق منير التليلي (وتراجع عنها الوزير الحالي)، الذي كان سيتيح للدولة لأول مرة تنظيم قطاع الأئمة وتوجيههم عبر أجهزة الدولة لخدمة منطق القانون والمؤسسات، ونبذ العنف ومن ثمة مقاومة استراتيجية للإرهاب.
السبسي وحزبه وصلا إلى السلطة بالاستثمار في الإرهاب وروجا وهما يتمثل في أنهم يمثلون الكفاءة الأمنية والقدرة على دحر الإرهاب. ولا يزال هذا الوهم رائجا للأسف، رغم أنه في عهدهم حصلت أسوأ عمليات إرهابية في تاريخ تونس من حيث عدد الضحايا والآثار الاقتصادية، وهو ما أكده طارق العصادي عضو الجامعة التونسية لوكالات الأسفار عندما قال: "كانت توجد إشارات قوية تنبئ بوقوع الكارثة في سوسة لم يقع أخذها بعين الاعتبار"، ومستغربا "عدم مرافقة السياح في تنقلاتهم خصوصا بعد حادثة باردو الإرهابية".
التذكير بذلك ضروري ليس للادعاء أنه يمكن بسهولة دحر الإرهاب لكن ببساطة للتذكير بأن الاستثمار السياسي فيه ربما يحقق نجاحا انتخابيا قصير الأمد، لكن لا يستطيع تغيير المعطيات، واختلاق كفاءة غير موجودة.
بالمناسبة مؤتمر مكافحة الإرهاب للخروج باستراتيجيات لمواجهته الذي حضرنا له طيلة 2014 من خلال دراسات، وغير ذلك لايزال غير واضح المعالم الآن وليس معروفا إن تم تشكيل لجنة تحضيرية لإعداده، أو سيكون مجرد مهرجان خطابي دون تشخيص وبحوث.
استطلاع رأي مكتب دراسات "أيمرود" هذا الأسبوع الذي يعطي أغلبية من المستجوبين (49% مقابل 33%) ضد "قانون المصالحة" يغطي منتصف أيلول/ سبتمبر (وهذه الأغلبية متناسبة مع الأغلبية الساحقة التي ترى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تدهور: استطلاعات الرأي عموما في هذه النقطة نسبها تترواح بين 60 و70%). أنا على اطلاع على استطلاع رأي تم إجراؤه في منتصف أكتوبر، النسب فيه تقريبا متعادلة.
هذا يؤكد أن المعارضة ناجحة في حشد رأي عام معارض للقانون رغم وسائلها البسيطة ورغم توجه قوي في الإعلام داعم للسبسي ومشروعه. مسيرة 12 سبتمبر ربما لم تكن حاشدة، مثلما تندر أنصار التحالف الحاكم، لكنها لم تعكس واقعا حقيقيا وهو رأي عام فعلى أغلبه ضد القانون.
يجب على قوى المعارضة إرسال رسالة وحدة ونبذ الخلافات الثانوية وإعطاء أغلبية الرأي العام هذه ثقة فيها حتى تنزل معها إلى الشارع؛ فتعديل التوازنات السياسية مرتبط بمعارضة قوية ترتكز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ودونها سيبقى الرأي العام يفكر بطريقة "شد مشومك لا يجي ما أشوم".
ومن ثم سنكون بصدد ديمقراطية شكلية تقوم فيها حكومة الرباعي اليميني بتمرير كل القوانين والإجراءات المعادية للفئات الاجتماعية الوسطى والضعيفة، والداعمة لسلطة اللوبيات.
فالديقراطية النيابية لا تلغي الشارع كمؤسسة ديمقراطية، الشارع هنا طبعا بالمعنى المنظم والسلمي. وبذلك المعنى لا يخلق الفوضى. ما يمكن أن يخلق الفوضى، مثلما أشار رئيس حركة النهضة، هو الاستهانة بالشارع واحتقاره واحتقار المعارضة وتوصيفها بالفوضى. ذلك ما يمكن أن يساهم في جعل المعارضة المؤسسية ضعيفة ومهمشة. ويخلق الظرف المناسب لوجود معارضة لا تؤمن أصلا بالمؤسسات وتؤمن جديا بالفوضى.
في المقابل ما سيجلب الاستثمار والتنمية ليس قوانين تطبيع الفساد وبيع الأوهام بل منوال تنمية يتجاوز سلطة اللوبيات، ويفتح المجال لتحرر القطاع الخاص وينهي خضوع الدولة للوبيات. ذلك لا يبدو ممكنا من خلال الوثيقة التوجيهية للتنمية الحالية للحكومة، التي تسبح في الإنشائيات. علاوة على أنها لا تمثل حتى الرباعي الحاكم.
وزير وقيادي في حزب السبسي يقول إن الحكومة لم تطلع على الوثيقة التوجيهية التنموية للحكومة التي أعلن عنها وزير الاستثمار في الحكومة، مضيفا أن "الأحزاب الثلاثة وهي نداء تونس والنهضة والاتحاد الوطني الحر، قدمت وثيقة خاصة بها ووزارة التنمية (يقودها مؤسس حزب آفاق) قدمت وثيقة خاصة بها على حدة".
موضوع عزل الأئمة مهم. لكن ما هو أهم هو عزل الفساد عبر إقامة دولة عادلة وقوية.