تغير مزاج الأقباط من عبد الفتاح السيسي أم لم يتغير؟!. في الأسبوع الماضي أكد الناشط القبطي، المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، "مجدي خليل"، أن مزاج القوم قد تغير، مهددا بأنه إذا لم ينصف السيسي الأقباط فسوف ينتقلون من خانة الفتور إلى خانة المعارضة.
دليل مجدي خليل، على أن المزاج قد تغير، هو أن المسيحيين كانوا بالآلاف في العام الماضي أمام الأمم المتحدة، وقام هو شخصيا بإرسال (35) أتوبيساً، في العام الماضي، محملين بالمسيحيين وهو ما لم يفعله في هذا العام، ليصبح الذين رابطوا أمام مقر الأمم المتحدة هذه الأيام هم بنسبة (5%) من أعداد الذين حضروا في العام الماضي!.
بيد أن "نبيل المقدس" الكاتب بموقع "الأقباط متحدون"، رفض هذه الرؤية، فمزاج المسيحيين لم يتغير من عبد الفتاح السيسي، غاية ما في الأمر، أن كثيرين في العام الماضي جاؤوا ليروا هذا الرجل الذي قاد عملية التخلص من الحكم الإخواني ويحتفوا به، نافيا أن تكون قلة العدد في هذا العام عائدة إلى فتور، وجاء عنوان المقال واضحا: "خدعوك يا مجدي فقالوا فتور بين الأقباط والسيسي"!.
وإذا كان مجدي خليل، قد وصف الذين ذهبوا للاحتفاء بعبد الفتاح السيسي، بأنهم من المستفيدين منه داخل مصر، أو من بعض الأقباط المرتبطين بالنظام منذ عهد مبارك، فقد وصفه "نبيل المقدس" بالهارب، وهو ما نفاه خليل، فقد سافر إلى مصر مرات عدة منذ قدومه للولايات المتحدة الأمريكية وكان آخرها في سنة 2011، ورد له التحية بأسوأ منها فموقع "الأقباط متحدون"، بحسب رأيه، يسيطر عليه ويديره منذ سنوات "أمن الدولة"، وأن من يقومون على الموقع من نوعية الأقباط التي تعمل خدما للأجهزة الأمنية، واستدعى وصفا لهم أطلقه الكاتب القبطي "ماجد عطية": "نصارى الأمن"!.
بعيدا، عن التلاسن بين "خليل" و"المقدس" والتنابز بالألقاب، فقد رفعا عنا الحرج، بعد أن صار اللعب على المكشوف، وبعد أن أكد خليل أن "الكتلة الصلبة" التي وقفت مع السيسي ودعمت شرعيته، هي من الأقباط، وقد "بدأ مزاجهم يتغير تجاهه"، ومؤكدا أن الآلاف الذين احتشدوا أمام مقر الأمم المتحدة في العام الماضي كانوا من هذه "الكتلة الصلبة"، في حين أكد الأخير على المعنى نفسه، وقد اتفقا رغم خلافهما على أن الذين كانوا في هذه المرة وفي العام الماضي من الأقباط!
لقد تأكد لي هذا المعنى، وأنا أشاهد برنامج "على مسؤوليتي"، و"أحمد موسى" ينقل هذه الأجواء الاحتفالية من أمام مقر الأمم المتحدة، ويحجب صورة أخرى كانت قريبة من هذا المشهد، هي لمن خرجوا ينددون بالسيسي، ويرفعون صورا لمعتقلين في سجونه، وليس هذا هو الموضوع!
لقد بدا "موسى" حريصا على ألا يتورط في إعلان أسماء الذين نصبوا الفرح، لأن ذكر الأسماء من شأنه أن يشير إلى أننا أمام احتفال طائفي بامتياز، لا يغير من هويته وجود بعض المحجبات، وكان موسى يبدأ حديثه مع كل متحدث، بسؤاله حتى "يدخل في الموضوع"، ولا يجد مناسبة لذكر اسمه فيحدث الفرز الطائفي، وإن لمست حرصا من المتحدثين مدفوعا بسلامة النوايا، ليعرف المحتفى به هويتهم، حتى لا يضيع جهدهم سدى، وحتى تصل الرسالة إلى السيسي وسلطته واضحة.
دون مناسبة، أعلن أحد المتحدثين أن هذا الحشد تقف خلفه "الهيئة القبطية"، ولم نكن بحاجة لتصريحه، لنعرف كيف قسم الانقلاب المصريين، وكيف أنه أحدث شرخا في جدار الوحدة الوطنية، نحتاج إلى معالجته، ولا أظن أن الظرف يسمح بذلك إلا بعد طي صفحة السيسي، على قواعد الثورة أو وفق نظرية التغيير!
فما دامت الكنيسة تريد لنفسها دورا سياسيا، ويريد البابا أن يتعامل على أنه رئيس الحزب المسيحي المصري، فسوف تستمر الأزمة، ولا يوجد أمل في أن يتم حمل الكنيسة على الاهتمام بوظيفتها الروحية، وإذا كانت مشكلة البابا شنودة في أنه زعيم سياسي ضل طريقه إلى الدير، وكان مستعدا لفعل أي شيء في سبيل تحقيق زعامته، فإن البابا تواضروس الذي لم يثبت وعيا سياسيا، ولم ينقل عنه قبل رئاسته الدينية رأيا أو موقفا سياسيا، وجد الطريق ممهدا للقيام بدور الزعيم السياسي فأعجبته اللعبة، ليغطي على أزمات داخلية، توشك أن تنفجر في وجهه مثل الوعي القبطي بعد الثورة، ومثل أزمة الزواج الثاني التي يتضرر منها أكثر من ثلاثمائة مسيحي قابلين للزيادة!
ومما يؤسف له، أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت حاضرة في الثورة المضادة منذ اليوم الأول، وإذ تجاوزت حالة التسامح الثوري عن وقوف البابا شنودة مع مبارك، فلا يخفى على أحد أن الحضور الكنسي كان في كل التجليات التي مهدت للانقلاب العسكري، ومنذ الحصار الأول للاتحادية، وقد شاهدت رهبانا في التحرير وأمام القصر الجمهوري، نعم رهبان وليس قساوسة، والأصل في الراهب أنه انقطع عن هذا العالم، لكن الذي حدث أن بعضهم عاد إليه ليسقط الحكم المنتخب، وليشكل الحضور القبطي الذي "دعم شرعية السيسي"، "الكتلة الصلبة"، بحسب وصف "مجدي خليل"!
لا أعرف ماذا كان ينتظر "خليل" من السيسي، ولم يتحقق؟! فما نعلمه أنه عندما كانت الآمال معقودة عليه "شحن" من اتسع لهم (35) أتوبيسا إلى الأمم المتحدة لتأكيد شرعية السيسي الدولية، وهي نظرية جديدة في الشرعية، تنضم إلى ما وصفه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بـ "العلوم السيسية"، عندما تتأكد الشرعية بالحافلات!
وما علمناه الآن أن المزاج القبطي قد تغير، وصار الفتور هو ما يحكم العلاقة بين الأقباط والسيسي، على نحو جعل "مجدي خليل" يعلن أن سياسات عبد الفتاح السيسي تجاه الأقباط، لا تختلف عن سياسة المخلوع!
ليصبح من المنطقي أن يطرح هذا السؤال نفسه: وهل كانت سياسات "المخلوع" سيئة؟! ومادامت باعثة على الفتور وتغير المزاج عندما اتبعها السيسي، فلماذا أعلن البابا شنودة في اليوم الأول لثورة يناير أن الأقباط مع مبارك، ودعا رعاياه إلى عدم المشاركة في المظاهرات؟ ليكون كل كلامنا عن الحضور المسيحي إعلاميا كان عن حضور الكنسية الإنجيلية التي قادت القداس الشهير في "ميدان التحرير"، وكانت الدعاية أيامها وبعد سقوط مبارك، توحي كما لو كان الحضور الأرثوذكسي محققا، استغلالا لجهل الرأي العام في التمييز بين الكنائس. ولم يكن هذا صحيحا؟!
سياسة مبارك في التعامل مع الأقباط كانت تقوم على فكرة اكسب البابا تضمن أتباعه، وقد أجادت دولته اللعب بهذا الملف، لتحقيق ما تريد، بدلا من أن يجد نفسه مضطرا للتعامل مع نخبة مسيحية لا تمثل إلا نفسها بالكاد، وكان البابا شنودة الذي خرج للتو من معركة تكسير العظام التي قادها ضده الرئيس السادات، يقبل بالحد الأدنى، وإذ كان قد ناور مع الحكم الجديد بعد اغتيال السادات، حتى يصدر قرارا بإلغاء قرار السادات بعزله، واعتباره قرارا تخلق في رحم البطلان، حتى صار هو والعدم سواء، فإن مبارك رفض ذلك وأصر على أن يصدر قرارا جمهورياً جديدا باختيار البابا شنودة بابا للإسكندرية، حتى يصبح الأمر كما لو كان منحة منه!
كان البابا شنودة، يريد أن يُعامل على أنه زعيم الأقباط السياسي، أو رئيس دولة الأقباط، ولم يكن لدى نظام مبارك مشكلة في ذلك، فقد استفاد حكمه من هذه الزعامة، فيكفي أن يصدر البابا توجيهات لرعاياه لانتخاب الحزب الوطني ومرشحيه، في الانتخابات البرلمانية والنقابية، أو لانتخاب مبارك نفسه في الانتخابات الرئاسية، فيحتشدون تنفيذا لذلك، ولا ينتخبون قبطيا إذا ترشح ضد مرشح الحزب الوطني، وإنما لا مانع من البكاء المسيحي في الغرب بأن المناخ الطائفي في مصر، لم يفرز نائبا مسيحيا. مع أن الكنيسة نفسها وقفت ضد المرشح القبطي كما جرى مع مرشح حزب التجمع في المنيا، ومرشح حزب الوفد في دائرة المرج بالقاهرة في انتخابات 2005.
في المقابل، فإن "كوتة المسيحيين" في التعيين في المجالس النيابية كان البابا هو من يختارها، فقد لعب مبارك على وتر الزعامة عند الرجل، فتارة ينزله منزلة رئيس الحزب المسيحي، وتارة يعامله على أنه رئيس دولة الأقباط عندما يسلمه مسيحيات أسلمن ويغض الطرف عن احتجازهن في الأديرة بالمخالفة للقانون، وبما ينال من مبادئ الدولة المدنية!
ولا يمنع هذا من مشكلات يومية وفي التفاصيل، ومن غضب من هذا الطرف على ذاك والعكس، لكن هذا لا يؤثر على التعامل الاستراتيجي، فلم يكن كلاهما راغبا في أن ينتقل الخلاف إلى خصومة أو صراع، وهما ليسا على استعداد له، فقد جرب البابا عواقب الصدام مع الدولة، وكان مبارك يدرك أنه ليس السادات، ولم تكن التفاصيل تستدعي قطيعة، فالمصالح الاستراتيجية هي الأهم!
مبارك مارس "المكايدة السياسية" مع البابا، ردا على بعض مواقفه، مثل الموقف من "أحداث الكشح" التي كان فيها الأنبا ويصا متورطا بالصوت والصورة، وإذ تم استبعاده من قائمة الاتهام، لحساسية تقديم رجل دين متهما في قضية طائفية، وإذ كان موقفه لابد وأن يكون بعلم رئاسته الدينية، فقد كان رد مبارك على طريقته كرجل يتمتع بما يُعرف بـ "خبث الفلاحين"، وهو كان يعتمد نظرية "المكايدة السياسية" في الحكم!
كان النشطاء المسيحيون يتحدثون دائما عن أنه لم يحدث أن تم تعيين محافظ مسيحي، فذات صباح أصدر مبارك قراره بتعيين مسيحي محافظاً لقنا وفي قلب الصعيد، وسط هتاف إعلامي في الداخل والخارج تأييدا لهذه الخطوة، وكان الأقباط الذين يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية يكلمون أنفسهم لهذه الحرفية في اللعب، ولا يستطيعون البوح بما تمور به في النفس!
ولأن المحافظ الجديد، فهم دوره فقد رفض أن يستقبل رجال الدين في المحافظة ليتكلموا بالنيابة عن المسيحيين، فهو محافظ لقنا كلها وليس مندوبا للكنيسة في موقعه، وكسب بذلك تعاطف الكثيرين الذين أكبروا فيه هذا دون فهم للبواعث!
وعندما جهر المسيحيون بالقول، اشتكوا من تعنته وقالوا لو كان من الإخوان المسلمين لكان أفضل لهم!.. ولم يذكروا الحقيقة، التي لا يلم بها الرأي العام بل والنخبة، لأن إعلانها سيكون سببا في اتهامهم غربيا بالطائفية وممارسة اضطهاد أقلية الأقلية، فالمحافظ ينتمي للكنيسة الإنجيلية!
وإذ وقعت تفجيرات كنيسة القديسين، وثارت شكوك حول مسؤولية وزارة الداخلية عنها، لإلصاقها بالإسلاميين، وتقديم رسالة للغرب بالخطر الذي يواجه الأقليات الدينية على أيدي أنصار هذا التيار الذي يمثل البديل الوحيد للنظام القائم، كما كانت رسالة داخلية ضمن رسائل كثيرة متكررة تعزف على وتر أن نظام مبارك هو "الحامي" للمسيحيين فيخلصوا في تأييده!
وربما وصلت هذه الشكوك إلى البابا شنودة، وربما استشعر تقصيرا أمنيا كان سببا في عدم الوصول للجناة، فغادر إلى الدير للاعتكاف، وهو تصرف ينم عن الغضب الشديد، وغضب مبارك واعتبره تصرفا متجاوزا من البابا، ورد عليه بنظرية "المكايدة السياسية".
لقد أجريت انتخابات مجلس الشعب، ولان من حق الرئيس تعيين عشرة من النواب، وكان قد جرى العرف منذ برلمان (1987-1990) على أن البابا هو من يرشح المسيحيين الذين سيشملهم قرار التعيين، فقد خالف مبارك العرف الذي أرساه وعين جمال أسعد عبد الملاك، خصم البابا، الذي انتقده كثيرا في الصحف، وأصدر كتاب مهم يستنكر فيه أن يمثل البابا الأقباط سياسيا، وكان عنوانه "من يمثل الأقباط.. الكنيسة أم الدولة؟"!، صدر بعده قرار بمنع عبد الملاك من دخول الكنائس والأديرة!
لم ينشغل مبارك بأن "جمال أسعد عبد الملاك" عضو في حركة "كفاية" التي ترفع شعار رفض التمديد له والتوريث لابنه، ولم يكن يغفر لمعارضيه، لكن كانت رغبته في الكيد للبابا، متجاوزة لكل شيء.
كان قد مضي أقل من شهرين على هذه الواقعة، عندما قامت الثورة، فأعلن البابا أنهم مع مبارك!
فمهما يكن، فقد كان مبارك مرضيا عليه من رأس الكنيسة، وبالتالي فإن الحديث عن أن سياسات السيسي تجاه الأقباط لا تختلف عن سياسات المخلوع لن تغير تغييرا جذريا في الموقف، وإن كنا قد لمسنا الفتور، ليس فقط في الحضور أمام مقر الأمم المتحدة بالمقارنة بالعام الماضي، وإنما في حديث الأقباط بشكل عام، فإن ما يريده السيسي منهم ليس أكثر مما كان يريده مبارك، لأن الطلب بأكثر من هذا لا يملك القدرة على دفع فاتورته، وسينتقل به من حاكم، ليس ملزما تجاه احد بفواتير سابقة، إلى شخص تتحكم فيه "الكتلة الصلبة".
ومهما يكن فلا أعرف ما الذي كان ينتظره القوم من السيسي، فلما لم يحدث توقفت "مقاولة شحن الأنفار المسيحيين" إلى مقر الأمم المتحدة، للاستمرار في تأكيد شرعيته الدولية، ومما يهدد بالانتقال من حالة الفتور إلى المعارضة؟!
السيسي هو ابن دولة مبارك، وقد مثل المسيحيون له "كتلة صلبة" مع ذلك، ومع أنه متهم من بعضهم بالمسؤولية عن أحداث ماسبيرو، ودماء مينا دانيال معلقة في رقبته، تماما مثل دماء أسماء البلتاجي بعد ذلك، ومع ذلك، فقد وقفوا معه دون أن يعتذر عما هو منسوب إليه، لمجرد إسقاط حكم مرسي لأنه منتم للإخوان المسلمين، ولم يكن مرسي قد داس لهم على طرف، بل نفذ سياسة مبارك في التعامل مع الكنيسة على أنها دولة، وأن البابا هو رئيس الحزب المسيحي المصري، دون أن يستفيد بما كان يستفيد به مبارك ونظامه من انحياز الكنيسة له، وبما يمثل انقلابا على فكرة الدولة المدنية التي دعت إليها ثورة يناير!
وتكمن مشكلة "مجدي خليل"، في أنه في فترة الحماس، لم يفكر بمنطق في عقلية السيسي، فقد أثبت بحماسه أن الحب بالفعل "مرآته عمياء"، فالسيسي لا يمكن أن يلقي بكل ثقله في ناحية واحدة، وإن كانت فيها "الكتلة الصلبة"، فيصبح بعد ذلك أسيرا لها، وفي كفالة نجيب ساويرس، فقد يرفض من داخله حزب "النور"، لكن يبقي عليه لإحداث هذا التوازن، مع هذه "الكتلة الصلبة"، وحتى لا يستأثر حزب "المصريين الأحرار" بالمشهد!
والسيسي لا يعنيه فتور النشطاء، أو حتى فتور المسيحيين جميعهم، لأنه يحتاجهم فقط على قواعد أستاذه مبارك، وهذا في يد البابا وليس في يد ناشط من هنا يهدد بالانتقال للمعارضة. ومن حلم بأكثر من هذا، فإنه كالجائع يحلم بسوق الخبز!
ما يريده السيسي هو بيد "المقاول الكبير" وهو البابا، ويوم أن يلتزم بحدوده الجغرافية وبأسوار كنيسته، عندها يصبح لتهديد "مجدي خليل" معنى!