كتاب عربي 21

نجاحات أهل أوسلو

1300x600
إذا أردت أن تبحث في ذكريات أوسلو، فابحث في التاريخ عن بواعث الاتفاق أولا، فكل شيء أثر لتلك الدوافع.

(1)

قبيل مؤتمر مدريد نوفمبر 1991 قال رابين لأحد أعضاء الوفد الأمريكي المشارك بالمفاوضات: "لقد أصبحوا الآن على الخارطة، وربما لن يكون أمامنا من حل غير معالجة موضوعهم".

لم تخرج تلك الكلمات من رابين إلا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987- 1988، ومن قبلها لم تحدث أي اتصالات بين الفلسطينيين والأمريكيين إلا مع بداية السبعينيات وفي نطاق أمني أو استخباراتي، لكن الانتفاضة الأولى "بالحجارة" أحدثت نقلة هامة في مسار الصراع، الأمر الذي استدعى الصهاينة لبحث وسائل إيقاف الغضبة، فاستأنسوا "حركة فتح" وبدأ الانهيار في مكانة القضية وكانت أوسلو 1993 أحد أهم المحطات حتى وصلنا لحالتنا اليوم.

ما فعله حكام العار أنهم بدأوا بحصر القضية في ذلك الوقت بيد دول الجوار، بعد أن كانت قضية الأمتين العربية والإسلامية، وبدأت دول الجوار في التخفف من التزاماتها حتى صارت محصورة في مصر، ثم سعى مبارك للتخفف من الحمل، مع الاحتفاظ ببعض الروابط التاريخية والالتزامات تجاه القضية، ثم أتى السيسي صاحب شعار "مسافة السكة" ليتحلل من القضية تماما، ولا يكتفي حتى بتركها بيد أهل النكبة، بل جعل القضية بيد المحتل الغاصب لا حتى بيد عباس وسلطته المتعاونة مع الاحتلال، لتكون مصر في أخزى تقلبات التاريخ، وأوضع مكانات التقرب للأمريكيين، ذلك الذي لم يأت حتى على ذكر إشكالات الاحتلال -في بداية الأزمة- أثناء خطابه بالأمم المتحدة، أتى على ذكر الخنوع للمغتصبين وضرورة التوسع فيه، كأن الذليل منكّس الرأس لا يبغي لغيره أن يرفعها.

(2)

في ظل ما أحدثه عباس بالضفة، وما أحدثه الاحتلال من تضييق على أهل القدس وغيرها، وكذلك ما أحدثه العرب كلهم من حصار وتغييب وتضليل وتشويه للقضية، ظن البعض أن المقاومة صارت في غزة المحررة وحسب، لكن انتفاضة السكاكين ذكّرتنا بأن الأرض كلها طاهرة ومقاوِمة، وأن غزة لا تحتكر المقاومة، وأن الرجال لا يحتكرون القتال، بعدما رأينا نساءنا هناك بألف رجل، سواء كنّ في الأقصى مرابطات، أو على خطوط الجبهة يواجهن العدو، أو حتى بين جنود العدو يخطفن أرواحه بطعناتهن.

ذكّرتنا تلك الانتفاضة بأن المعركة ليست حكرا على الإسلاميين هناك، وأن الهيئة الكلاسيكية للمقاومين تغيرت، ذكرتنا الانتفاضة بأن الأقصى لا يزال حاضرا في القلب، وأنه لا يزال يغذي الثورات والحميّات، ذكرتنا بأن هناك بفلسطين أبطالا، وأن حكامنا أخس ما أنجبت الدنيا، حتى أنهم لا يقبلون بمجرد التضامن ولو بهتاف يشق الأجواء ولا يحدث فرقا في الواقع، نبهتنا الانتفاضة إلى أن طريق التحرير يمر عبر كل بلد وأرض في هذه الأمة، ومن أراد الذهاب لهناك فلا بد من أن يحرر وطنه من حكام الخزي والذل والانبطاح.

رغم الحصار ومحاولات الاستئناس في القدس من قبل الاحتلال وأعوانه من العرب، والتضييق الحاصل بالضفة لتكميم الأفواه، أفشل الشباب هناك كل ما نتج على مدار عقدين منذ وقعت تلك الاتفاقية المشؤومة، ونبهوا الجميع أن الأرض لا تزال كلها مقاومة، وأن النار لا تزال مشتعلة، وأن حق التحرر سيظل يتوارثه الفلسطينيون وكل العرب، وسيظل كل جيل يربي أبناءه على الكراهية لهذا العدو، حتى التحرر الكامل من البحر للنهر.

(3)

في زمن كان النضال ضد المحتل واجبا، خرجت كلمات قباني "أصبح عندي الآن بندقية" لتصوغ العلاقة بين الفن والقضية، وبين النضال طريق الحرية، تلك الكلمات لم تسند لمطرب مغمور بل لحنها عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم، في دلالة واضحة لمكانة القضية عندنا وقتها، وطوال ذلك التاريخ حتى الانتفاضة الثانية أواخر 2000 كان الفن لا ينفصل عن القضية.

اليوم بعض من شارك في الحشد للقضية سابقا في أعمال سينمائية أو غنائية، لا يقدر على ذلك الآن، وربما صار في خندق الخنوع، ليشعرنا أنه يتحرك وفقا لطبيعة المرحلة لا وفقا لقناعاته أو المزاج العام لمحبيه، في زمن القضية لم يشفع لعلي سالم قيمته الكبرى في المسرح، وظل على هامش الحياة المصرية لأنه دعا للتطبيع، والآن دعوات السلام مع الصهاينة أصبحت دون عقوبة، ودعوات دك الحركات المقاومة لا حرج فيها، ومجرد التضامن ولو بعمل فني، يكفي لوصف صاحبه بالخيانة!

(4)

ما نعلمه وسنظل نردده أن طريق التحرير يكون بالنضال ضد المحتل الذي لا يفهم سوى لغة السلاح والقوة، وليس من حق أي طرف منع المقاوم من استرداد أرضه، مثلما فعل كل من وقع في أسر الاحتلال، وكأن التحرر حق له دون غيره.

ما نعلمه وسنظل نردده ما قاله قباني: "يا أيها الثوار.. في القدس، في الخليل، في بيسان، في الأغوار، في بيت لحم، حيث كنتم أيها الأحرار تقدموا.. تقدموا.. إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية".