عندما يستبد الفراعنة والأكاسرة والقياصرة، ويختزل كل منهم دولته في شخصه، ويفرض حكم الرجل الواحد، فحينئذ نفسر ذلك بأنه اغترار بسطوة المُلك، وانخداع ببريق السلطة والعرش.
أما أن يأتي زعيم وهمي صوري لبلد يئنّ تحت وطأة الاحتلال، ولا وزن له لدى أعدائه، ولا يعدو أن يكون ورقة في أيديهم، ثم يشخصن هذا الزعيم قضية بلاده، ويوجه مسار القضية العامة وفق هواه ورؤيته الأحادية، فذلك ما لا تجده إلا في رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي سعى لـ "عبسنة" القضية الفلسطينية، واختزالها في شخصه.
أحاول تتبع المسار السياسي لمحمود عباس لأضع يدي على إنجاز واحد له يفيد القضية الفلسطينية، فلا أقف إلا على النكبات، وأدوار البطولة الكرتونية التي لعبها، وكلها تصب في صالح إسرائيل لا القضية الفلسطينية التي جعلها أرجوحة على طاولة المفاوضات.
* مهندس اتفاقية أوسلو التي تمثل محطة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، لم تخدم حقيقة سوى الكيان الإسرائيلي.
ربما تهدأ ثورتكم عليَّ وتكُفّون عن اتهامي بالمبالغة إذا قرأتم هذه العبارة للوزير الإسرائيلي "يوسي ساريد":
"إن إسرائيل اليوم خلقت من جديد، فمنذ نشأتها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم 13 سبتمبر 1993م (وهو تاريخ اتفاقية أوسلو) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها".
كلام الوزير الصهيوني اختصر كارثة أوسلو أحد أبرز انجازات عباس، فقد منحت الاتفاقية الإسرائيليين ما كانوا يحتاجونه من شرعنة المفاوضات الثنائية والإبقاء على السيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وأدت إلى نزع صفة الاحتلال عن العدو الإسرائيلي، والتأسيس لصراع فلسطيني فلسطيني عندما اشترط الإسرائيليون على المفاوضين الفلسطينيين ضمان الأمن الإسرائيلي من الأعداء في الداخل (المقاومة).
* أبو مازن منذ توليه السلطة الفلسطينية عام 2005، وهو يقوم بدور الشرطي الإسرائيلي لقمع المقاومة، فكانت أجهزته الأمنية تطارد وتلاحق عناصر المقاومة الفلسطينية وبصفة خاصة حركة حماس، وتخمد جذوة المقاومة في الضفة، فهل كانت تلك الإجراءات لصالح القضية الفلسطينية؟
كانت تلك هي الضريبة التي يدفعها عباس ليظل الواجهة الرسمية للقضية الفلسطينية، في سبيل نيل الرضا الأمريكي الإسرائيلي للسماح له بالجلوس على طاولة المفاوضات.
كان قيامه بدور الشرطي الإسرائيلي من أجل أن يستمر المسار السياسي بعد أن اتخذ الانبطاح كخيار استراتيجي.
* هو ذاته أبو مازن الذي يلاعب الحكومة الإسرائيلية بورقة التلاقي مع المقاومة، فيقبل المصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة وفاق فلسطينية وافقت عليها حماس وكان لها يد طولى في الدعوة إليها، لكن الرجل كانت له أغراض أخرى غير التوافق، فهي الورقة التي لوّح بها في وجه نتنياهو عندما أدار له ظهره، وفي الوقت نفسهكانت حركة حماس قد خرجت من فورها منتصرة في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، فكان لابد له من البحث عن ظهور بطولي مقابل منافسه حماس، فقبل بحكومة الوفاق.
لكنه سرعان ما عاد إلى التلاعب بالقضية الفلسطينية وعمل على تطويع مسارها لصالح شخصه، فعرقل مسيرة التوافق، فتقاعست حكومته عن تسلّم مهامها في قطاع غزة، لتعود القضية إلى المربع الأول.
ومن أجل التخلص من المقاومة في غزة وكسر شوكتها، باعتبارها منافسه الأول الذي يقاوم المحتل وبالتالي يحرج عباس – المُتقاعس– جماهيريا، رحب عباس بالجريمة النكراء التي ارتكبها حليفه السيسي، بإغراق أنفاق غزة بماء البحر، وما ترتب عليه من تهديد للبنية الزراعية وتعريض الأراضي والمنازل لخطر عظيم، إضافة إلى قطع الشريان الذي يمدّ القطاع بالمؤن ومواد البناء ومستلزمات الحياة.
عباس يتبجح ويتفاخر بأنه كان صاحب هذه الفكرة الشيطانية، وكأنّ هؤلاء المحاصرين المنكوبين في غزة ليسوا من جملة الشعب الفلسطيني، المهم أن تخمد المقاومة التي تعكر عليه صفوه ومزاجه.
المستوطنات يجري بناؤها بلا توقف، وجرائم شرطة الاحتلال والمتطرفين اليهود مستمرة، وانتهاكات المسجد الأقصى أصبحت شيئا مألوفا، ومحاولات التقسيم المكاني والزماني تجري على قدم وساق، ورغم صمت عباس تجاه ذلك كله، أدار له نتنياهو ظهره وصار يبحث له عن بديل بعد أن انتهى دوره، فماذا فعل عباس الذي دأب على المتاجرة بالقضية الفلسطينية؟
أخذ يطلق الدعايات لخطابه المنتظر في الأمم المتحدة الذي عقد نهاية الشهر الماضي، وبدأ يلفت الأنظار ويثير التساؤلات والتكهنات عندما أكد على اعتزامه تفجير قنبلة في الأمم المتحدة.
لكن يبدو أن لقاء كيري/عباس قبل إلقاء الخطاب قد آتى ثماره، بل ويبدو أن سادة البيت الأبيض قد ألقوا له عظمة، جعلته يخفف من حدة خطابه، فجاء على غير المتوقع، وهدد بقطع التزاماته مع الإسرائيليين.
فثار الجدل من جديد بعد الخطاب، هل سيُترجم عباس مضمون الخطاب إلى واقع عملي أم أنها فرقعة إعلامية لإرغام الإسرائيليين والأمريكان على العودة إلى المفاوضات مع الرجل.
لكن الأيام الماضية أثبتت أنها كانت عادته القبيحة في المتاجرة بالقضية الفلسطينية وتطويعها لصالحه، ففي الوقت الذي يتم فيه التصعيد من الجانب الإسرائيلي وما ترتب عليه من تصعيد فلسطيني مضاد، يستجيب عباس لدعوات التهدئة من أمريكا والاتحاد الأوروبي، ويقول بعد استشهاد 42 فلسطينيا على يد الاحتلال في الأيام الماضية: يدنا ممدودة بالسلام.
ويؤكد في خطابه الأخير: "سنعمل بالصبر والحكمة والشجاعة اللازمة من أجل حماية شعبنا ومنجزاتنا السياسية والوطنية التي تحققت بعد عقود من النضال والمثابرة، وعبر مسيرة طويلة من الشهداء والجرحى والأسرى".
دققوا يا قوم في قوله: "بالصبر والحكمة....، منجزاتنا السياسية والوطنية" ستدركوا أنه يعني خيار الانبطاح الذي يضمن له الجلوس أمام السادة الأمريكان والصهاينة للمفاوضات.
لكن بالرغم من ذلك يحمِّله نتنياهو مسئولية التصعيد الفلسطيني ليستفزه إلى القمع العلني للحراك الشعبي والذي ينذر بانتفاضة ثالثة.
أكاد أجزم بأن محمود عباس أحد أبرز العوائق أمام انطلاق الانتفاضة الثالثة بمحاولاته المستمرة في كبح جماح المقاومة الفلسطينية، وقتل القضايا التي من شأنها تسخين الوضع الفلسطيني.
وبعد مضي 17 يوما على بدء الهبة الفلسطينية وحرب السكاكين، نستطيع القول أن الشارع الفلسطيني وظاهرة المقاوم الفرد، هي المعول بعد الله تعالى في كسر شوكة المحتل الإسرائيلي، وأنها الورقة الرابحة في ملف القضية الفلسطينية.
لقد أثبت الفلسطينيون أن روح المقاومة فيهم لا تموت، وأن التحرير بإذن الله سيكون على يد الفلسطينيين أنفسهم، لا المجتمع العربي ولا المجتمع الدولي، وصدق من قال: إسرائيل احتلت الدول العربية، وتحاول اليوم احتلال فلسطين، وكل لبيب بالإشارة يفهم.