مما لا يختلف عليه اثنان تقريبا، أن من المآزق الكبرى التي عاشها الفلسطينيون منذ اتفاق أوسلو العام 1993، المزاوجة بين عمليات إدارة مجتمع والقيام بمهمات الدولة التقليدية إزاء المجتمع، من دون وجود مقومات للقيام بهذه المهمات. لكن الأهم هو كيفية القيام بعملية التحرر التي لم تنجز بعد.
في البدايات، كانت هناك قناعة لدى شرائح لا بأس بها من المجتمع الفلسطيني، بأن عملية التفاوض والسلام قد تؤدي إلى حل ما. وانعكس هذا حتى في بعض النشاطات التطبيعية مع الإسرائيليين؛ من نوع ورش السلام والندوات المشتركة، وما شابه. وتدريجيا، انتهى الحديث عن التطبيع والسلام، بفضل مقاومة التطبيع من جهة، ولاتضاح وهم السلام القائم على المفاوضات واللقاءات العبثية، الممولة أميركيا وأوروبيا. كذلك، انضمت القيادة الرسمية وأعلنت جهاراً نهاراً أنه لا يمكن الاستمرار بالاتفاقيات الراهنة.
رغم ذلك، ما يزال خطاب الدولة قائماً. ويتعدى انتشار خطاب الدولة هذا القيادة السياسية والسلطة الفلسطينية، إلى كل قطاعات المجتمع، والمواطن العادي؛ فالطالب في الجامعة، والعامل، والموظف، يعتقدون أنّ هناك سلطة يجب أن تقوم بتوفير تعليم، وعلاج، وبنية تحتية. وباتت الشركات تدار على أسس تجارية تقليدية، وهناك دعوات لقوانين في كل أوجه الحياة، رغم أنّه لا يوجد سلطة أو جهات قادرة على تنفيذ القانون، في ظل وجود الاحتلال.
وصار من المضحك أن تجد ورش عمل ومشاريع تدريب لبناء الطاقات (Capacity Building) للتحضير للدولة المنتظرة، مع أن إقامة هذه الدولة أمر متعذر وبعيد؛ فتستعد لدخول منظمة التجارة العالمية مثلا، ولكنك لا تنضم، ويصل من تدربوا على الانضمام للتقاعد قبل أن يحدث الانضمام.
وتجد عشرات الورش عن الديمقراطية، مع أنه لا ديمقراطية تحت ظل الاحتلال؛ وورش عمل عن أنظمة الانتخابات مع أنه لا يوجد انتخابات. وعندما يأتي الغربيون، فإنهم يتحدثون عن بناء مؤسسات الدولة، ويتحدثون عن الاستقرار.
نعم، يحتاج الفلسطينيون أن يعيشوا كما باقي البشر في دولة، وبوجود مؤسسات واستقرار وحكم القانون. لكن هناك مرحلة تَحَرّر لم تنجز بعد.
حدث هذا التفكير بعقلية الدولة والمستقبل المستقر، على حساب المواجهة الحقيقية لواقع الاحتلال. ووُوجهت الحالة الفلسطينية الراهنة بانشغال العقول والطاقات الفلسطينية بمشاريع بناء تصلح للدول، وتحول هذا إلى قيد.
الارتباك في مواجهة الحالة الراهنة، الناتجة عن قرار شباب فلسطيني عدم الاستمرار في الصمت وإلقاء حجر في الماء الراكد في وجه سياسات الاستيطان والاحتلال المتزايدة في عدوانيتها، ناتج (الارتباك) عن تكلس تفكير البنى الفوقية في المجتمع بقضايا البناء، والدولة، وتقاسم السلطة؛ وكلها أمور متعذرة بوجود الاحتلال. فالتفكير بعقلية الجهاز الأمني الرسمي، وعقلية الجمعية غير الحكومية التقليدية، والدبلوماسية التقليدية، والجامعة التقليدية، والشركة التقليدية، لا تجدي المرحلة، وتسبب الحيرة الراهنة.
التفكير ببناء دولة أمر جميل، وهو حلم وطموح فلسطينيان، ولكنه يُواجه بحقيقة الاحتلال.
يصعب أن نتخيل وجود رد واضح أو منطقي لدى قادة الفصائل، والقيادة السياسية، وذلك لأكثر من سبب؛ الأول، أنّ هؤلاء القادة من دون تجديد حقيقي في الدماء، هم أنفسهم الذين أداروا مرحلة الكفاح المسلح والنضال، ثم "أوسلو" والمفاوضات، ثم انهيار العملية التفاوضية، ويرفضون ترك مواقعهم أو تسهيل التجديد، رغم أنهم أُرهقوا واستنزفوا، وبالتالي لا توجد عقول وطاقات جديدة كافية في عملية المواجهة.
والأمر الثاني، وهو متصل بالأول، يتمثل في استنزاف الطاقات والبرامج بالعمل في مشروع لم تتحقق شروطه، ألا وهو مشروع التنمية التقليدية. منطقيا، لا يوجد مجتمع لا يحتاج تنمية، فالأسرة تنمية، والجامعة تنمية، والمستشفى تنمية، وهذه كلها تشكل في الحالة الفلسطينية حالة صمود أيضا. لكن الحقيقة أيضاً أن كل المؤسسات تحتاج وقفة حقيقية للتفكير، في كيف يمكن أن نشكل جزءا من حالة وعملية وثقافة التحرير.
لن يستطيع أي أحد أن يقدم وصفة حقيقية لإدارة المرحلة، واستثمار لحظة النضال الشعبي الراهنة، من دون إعادة التفكير الجذري في دور ووظيفة كل مؤسسة وهيئة فلسطينية، وكل قطاع من قطاعات المجتمع الفلسطيني، وتحديد دورهم في عملية التحرير، فقبل الاستعداد للمستقبل يجدر مواجهة الحاضر.
(الغد الأردنية)