تضطر أم عمار إلى قطع مسافة تزيد على 600 متر تقريبا بشكل يومي، للوصول إلى الشارع الرئيسي في منطقتها، لكي تنتظر الباص الصغير الذي يقلها إلى مكان عملها. فمنطقتها التي تحيطها الكتل الأسمنتية، إحاطة السوار بالمعصم، لا يوجد فيها إلا ذلك المنفذ للدخول والخروج.
فمنذ سنوات عديدة، بات منظر الكتل الأسمنتية التي تشكل أسوارا عالية، مشهدا مألوفا في أحياء العاصمة العراقية
بغداد.
وقد وكان الدافع الأمني السبب وراء زرع تلك
الحواجز الخراسانية، لا سيما بعد الاقتتال الطائفي الذي نشب عامي 2006 و2007.
وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية كانت قد وعدت بإزالة تلك الكتل من شوارع بغداد، وقامت بذلك فعلا في مناطق عديدة، إلا أن مناطق أخرى ظلت تعيش تحت وطأة هذه الحواجز العازلة التي تخنق السكان، وما زالت شوارع رئيسية وفرعية عديدة تعاني من حواجز أقل ارتفاعا، لكنها تمارس الدور ذاته الذي يقيد الحركة ويحد من حرية انتقال السكان.
تروي أم عمار معاناتها اليومية لـ"عربي21"، وتؤكد أنها تمشي أكثر من 20 دقيقة صباح كل يوم، على الرغم من أن بيتها في حي الخضراء، غرب بغداد، لا يبعد عن الشارع الرئيسي سوى أمتار، مع عدم وجود سيارات الأجرة في منطقتها، ما يجبرها على المشي.
وقام السكان في الحي بإحداث فتحة في الجدار للعبور منها للشارع، لكن السلطات قامت بإغلاق المنفذ مرة أخرى.
تأثير سلبي
ويتحدث الباحث الاجتماعي الدكتور عبد الهادي الزيدي، لـ"عربي21"، عن التأثير السلبي الذي تتركه تلك
الجدران على نفسية المواطن في بغداد، مؤكدا أنها تمثل حاجزا مجتمعيا يبعث على التشاؤم، وتدفع المواطن إلى الشك بأن حلول المشكلات التي يعاني منها لا يمكن أن يحصل إلا بخلق مشكلات جديدة، وفق قوله.
يضيف الزيدي أن هذه "الكتل تعد واحدة من الأسباب الرئيسية للازدحامات اليومية في شوارع بغداد، التي لا تكاد تجد شارعا يخلو منها، بل حتى الجسور التي تكتظ بالسيارات، الأمر الذي يؤثر على دعامتها، ويجعلها عرضة للانهيار قبل انقضاء أعمارها الافتراضية بسنوات"، مشيرا إلى الآثار السيئة التي تتركها تلك الازدحامات والطرق المغلقة على المستوى النفسي للمواطن، إضافة لما تمثله من هدر للوقت والجهد والمال.
وفي محاولة للتخفيف من وطأة تلك الجدران، عمد بعض المواطنين إلى الرسم عليها وتلوينها، وكتابة النصوص الدينية والحكم والأمثال الشعبية، فيما استغلها آخرون لنشر إعلاناتهم التجارية. ويصف الزيدي هذه الممارسات بأنها "ردة فعل، ومحاولة لإنكار هذه الحواجز أو للتعبير عن الرغبة بإلغائها، وإضفاء شيء من الحياة على تلك الكتل الصماء".
وحاول مراسل "عربي21" الاقتراب من السيطرة الأمنية الرئيسة لإحدى المناطق، حيث تعد نقطة التفتيش هذه بمثابة نقطة الاتصال مع العالم الخارجي لذلك الحي. وعند سؤال جنود كانوا يجلسون عند ذلك "المنفذ الحدودي" عن جدوى هذه الحواجز الخانقة مع أن المنطقة لم تشهد أي خرق أمني منذ سنوات، جاء الرد بنبرة عسكرية: "إنها الأوامر.. ولستم أنتم من يعلمنا كيف نعمل".
وأفادت مجموعة من الشبان، كانوا واقفين على مقربة من نقطة التفتيش، بأنه لم يسمح لهم بالدخول إلا بإبراز بطاقة السكن التي تثبت أنهم من سكان هذه المنطقة، ولن يكون هناك دخول لأي شخص جاء لعمل أو زيارة إلا بـ"كفيل" من أهل الحي.
وقال صالح، الذي يعمل في مشاريع البناء، وكان ينتظر من يكفله، لـ"عربي21"، إنه يعاني من هذه المعاملة كلما جاء إلى المنطقة، مضيفا أنه يأتي من منطقة لا تبعد سوى دقائق، لكنه كل مرة يصطدم بالإجراءات ذاتها.
ربما لم تعد تلك الحواجز على سلم أولويات المواطن العراقي المثقل بهمومه، فالناس هنا تنام على أزمة وتصحو على أخرى، رغم أن مواطنين عبروا عن اعتقادهم بأن إزالة تلك الكتل سيسهم في تحسين المزاج العام، ويخفف من العبء اليومي الذي يحمله من يقف يوميا في الطابور للتدقيق والتفتيش، في حر الصيف القائض أو برد الشتاء القارص، في بلد أضحت الطوابير جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية لأبنائه.