ما زال الحراك
الفلسطيني فاعلا، ويشتد أحيانا ويسترخي أحيانا أخرى. هناك وسائل إعلام عدة تطلق عليه اسم انتفاضة، لكنه لا يبدو لي كذلك؛ لأنه ما زال محدودا في الزمان والمكان ومستوى المشاركة الجماهيرية. الحراك الفلسطيني يثبت وجوده بقوة غالبا في مكان الحدث وزمان الحدث، لكنه لم يتسع حتى الآن ليشمل مختلف التجمعات السكانية في الضفة الغربية، ولم يؤثر كثيرا في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بخاصة في مخيمات اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان.
بعض الجهات الفلسطينية متحمسة للحراك علّ وعسى أن يتطور إلى انتفاضة ومن ثم إلى مقاومة تستمر حتى تحقيق الأهداف الفلسطينية التي هي ليست معرفة بإجماع وطني. وكل هذه الجهات لم تبد استعدادا حتى الآن لتشكيل قيادة للحراك، وتوجيهه نحو مزيد من المشاركة والامتداد المكاني والزمني. وهنا أشير إلى بعض الجهات التي يمكن أن تكون مرشحة لقيادة الحراك دون الاستحواذ عليه:
أولا: منظمة التحرير الفلسطينية والتي تعدّ نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
قيادة المنظمة لا تستطيع القيام بمهمة قيادية لأعمال لا تعجب الكيان الصهيوني لأنها وضعت نفسها في قفص الاحتلال عندما قررت أن تأتي إلى الضفة الغربية وغزة، وهي تحت المراقبة المشددة وتعي تماما كيف يمكن أن يكون رد فعل الكيان الصهيوني إن هي قررت توجيه شباب فلسطين نحو ما لا ترتضيه إسرائيل. فضلا أن هذه القيادة أصبحت ذات مصالح وغالبا مرتبطة بالاحتلال، وليس من السهل التضحية بها. هناك امتيازات يحصل عليها هؤلاء القياديون في المنظمة وتسهيلات في الحركة والتنقل وتسهيلات تجارية تدر أرباحا. فضلا أن هذه القيادات أصبحت متعايشة مع الاحتلال وتقيم علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية معه، وليس من السهل تجاوز هذه المعطيات.
ثانيا: قيادات الفصائل الفلسطينية. هذه قيادات لا تختلف عن قيادات
منظمة التحرير من حيث أنها أسرت نفسها في قفص، وأقامت علاقات تعايش مع الاحتلال عبر أكثر من عشرين عاما من الترهل الوطني.
قيادات الفصائل ألصقت نفسها بالسلطة الفلسطينية، وهي تتلقى أموالا منها، وتحصل منها على امتيازات مثل السيارة وأجرة المكتب وراتب مرافق، إلخ. هذه قيادات تحت المراقبة أيضا، ولا يوجد لها وسيلة لمناهضة الاحتلال سرا بسبب الاختراقات الأمنية التي تعاني منها الفصائل. ولهذا لا تجرؤ هذه القيادات الفصائلية على تصدر العمل النضالي، وهي تكتفي بإصدار البيانات والمشاركة في مسيرات احتجاجية في شوارع ونقاط بعيدة عن نقاط التماس مع الاحتلال.
ثالثا: قيادات المعارضة الفلسطينية في الداخل والخارج. إذا كانت قيادات منظمة التحرير بائسة وعاجزة وطنيا، فإن قيادات المعارضة الفلسطينية أكثر بؤسا وأقل عقلانية واندفاعا نضاليا. على الرغم من مرور سنوات طويلة على اتفاق أوسلو، لم تتمكن هذه المعارضة من تشكيل مرجعية وطنية توجه الدفة الفلسطينية نحو الثوابت الفلسطينية والإصرار على استعادة كامل الحقوق الوطنية الثابتة. حتى أن أقطاب هذه المعارضة غير متفقين، وهم مشتتون ويتنازعون فيما بينهم بخاصة أن بعضهم أدخل أنفه في الشأنين السوري والمصري، وجر على الشعب الفلسطيني سوء السمعة والاتهام. لو كانت هذه المعارضة عاقلة وكان انتماؤها الوطني عالي المنسوب لشكلت قيادة في الخارج لتقوم بأمرين هامين وهما التوجيه والتمويل. أعمال الانتفاضة والمقاومة تحتاج إلى توجيه وإلى تمويل لأنها مكلفة. تتطلب حركة الشباب تمويلا وهم وحدهم لا يستطيعون تغطية المتطلبات المالية بخاصة إذا انخرطوا في أعمال المقاومة. أعمال المقاومة معقدة جدا، وتتطلب مهنية واحترافا في مواجهة الكيان الصهيوني، وإذا لم يجدوا من يوجههم ويرعاهم ماليا فإنهم يصابون بالإحباط. المعارضة لديها القدرة الأمنية على تشكيل قيادة لأنها ليست في قبضة الكيان الصهيوني الأمنية.
رابعا: قيادات من الأكاديميين والمثقفين والإعلاميين. من الممكن تشكيل قيادة من هذه العناصر ودون أن يكون لها تبعية للفصائل، لكن المشكلة تبقى أمنية. الاختراقات الأمنية الصهيونية للصفوف الفلسطينية كبيرة وكثيرة، ولا يوجد أمان أو اطمئنان بأن مخابرات العدو لن تكون مواكبة لتطور هكذا قيادة. العمل في فلسطين يشبه السير في حقل ألغام، وليس من السهل الثقة بالآخرين بخاصة أن السلطة الفلسطينية تراقب التحركات كما تفعل إسرائيل.
خامسا: عزمي بشارة ومنير شفيق: أعلن عزمي بشارة ومنير شفيق أنهما قد شكلا لجنة أو مجموعة للدفاع عن الثوابت الفلسطينية خارج فلسطين، وكنت من الذين شجعوهما وأبدو الاستعداد للعمل معهما. لكنهما أعلنا وغابا ولم نسمع منهما بعد ذلك على الرغم من أننا نشاهدهما أحياء على شاشات التلفاز. أي من الممكن لقيادات فكرية في الخارج أن تملأ الفراغ القائم، وتبدأ بتقديم الدعم التوجيهي والمالي لشبب فلسطين.
حتى الآن الحراك الفلسطيني يتيم، ويفتقد للبيئة الداخلية الحاضنة التي توفر الكثير من المتطلبات، ويفتقر إلى مقومات الاستمرار بمشاركة جماهيرية أكثر اتساعا وامتدادا عبر الزمن.