قدمت تركيا بإسقاطها الطائرة الروسية التي انتهكت مجالها الجوي في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، خدمة جليلة للشعب السوري وربما لكافة الشعوب التي تعاني من اضطرابات أمنية نتيجة الأعمال الإرهابية التي تنفذ على أراضيها بين الحين والآخر. فقد كانت حادثة إسقاط الطائرة الروسية السبب الرئيسي في رفع الغطاء عن منظومة العلاقات التي تحكم المنطقة وحقيقتها، إضافة إلى أنها مهدت لإعادة ترتيب الأوراق التي تم خلطها من قبل كل من الإدارة الأميركية –الإسرائيلية والإيرانية والروسية، بهدف تمرير المزيد من الوقت إلى أن تكمل استراتيجية تدمير المنطقة سنواتها الخمس وبعدها سيكون الانتقال إلى الخطة الخمسية التالية، والتي تتضمن إعادة تشكيل المنطقة حسب نظام المحاصصة الدولي الذي حرصت موسكو على أن تدخله بكل ثقلها طمعا منها بحصة الأسد.
وكما تابعنا في فيينا 1 و2 ستحمل الخمسية القادمة عنوانا رئيسيا وهو حكومة انتقالية في سوريا ودستورا جديدا، واستكمال بناء جيش بري قادر على نبش عناصر تنظيم الدولة حيثما تواجدوا على الأراضي السورية، ومن ثم التفرغ للحسم معهم في العراق.
وبناء على التفاهمات التي كانت على وشك التحول إلى اتفاقيات ومعاهدات رسمية بين الدول المؤثرة في الملف السوري تحديدا، تحركت إدارة بوتين بحرية في الأجواء السورية، وبدأت تتلمس مردودات تدخلها العسكري في سوريا على المستوى السياسي بأكثر مما كانت تطمح إليه، فمن شبه استبعاد دولي عن المحافل الأوروبية، وعقوبات اقتصادية دولية، ورفض علني من حكومة البيت الأبيض، ولعدة مرات، أي محاولات تفاهم دبلوماسية كانت قد بادرت إليها حكومة موسكو، إلى دور رئيسي وسيادي في أحد أهم الملفات التي تشغل المجتمع الدولي، إذا، لقد حققت موسكو من خلال استراتيجيتها المدروسة في سوريا قفزة حقيقية على مستوى العلاقات الخارجية، وهذا تحديدا ما تسبب في زيادة تعزيز بوتين لقوته على الأراضي السورية، وتمسكه أكثر بالموقع الذي حققه، وعليه كانت زيادة الثقل العسكري عبر إرسال أحدث أنواع الأسلحة الروسية وأكثرها تطورا، والتي كان آخرها منظومتي دفاع إس 400.
ليكون نشر هذه المنظومة رسالة واضحة من بوتين يقول فيها: (أنا القيصر في هذه المنطقة، فارهبوني).
من المهم هنا التوقف والتوضيح بأن السرعة التي تم فيها إنزال المنظومة وتركيبها ووضعها على أتم الاستعداد خلال أقل من يومين من تاريخ إسقاط الطائرة الروسية من قبل القوات التركية وضعنا أمام السيناريو الأكثر واقعية للحادثة، إذ لم يكن انتهاك المجال الجوي التركي مجرد خرق بطريق الخطأ! ولا مجرد تصرفات صبيانية واستعراض عضلات لبوتين، وإنما هي خطوة مدروسة من قبل إدارة بوتين أرادت من خلالها تبرير إنزالها لمنظومتي إس 400، التي- وحسبما ما يبدو- كانت قد وصلت إلى الأراضي السورية وركبت وجهزت لوضعها بالخدمة، فهي حاليا الأقدر على حفظ النفوذ الروسي في المنطقة، وهنا نذكر بما قاله السيد أردوغان ومن ثم أثبته بوساطة الإنفوغراف والتسجيلات الصوتية أنه تم تنبيه الطيارين الروس عشر مرات قبل إسقاط الطائرة! وهذا تحديدا ما أكد صحته حلف شمال الأطلسي.
الاختراق استغرق مدة خمس دقائق وهي مدة كبيرة جدا بالنسبة لزمن الطيران وخصوصا أن الطائرة من طراز سوخوي24 تمتلك القدرة على الطيران بسرعة ألف وثلاثمئة كيلو متر في الساعة، وروسيا على علم مسبق بالتنسيق الكامل بين حكومة أنقرة والناتو، وأن القرار اتخذ على دعم أنقرة في حال إسقاطها أي طائرة تنهتك أجواءها- ضمن قواعد الاشتباك- فالوضع الأمني التركي يستدعي كل الحزم اليوم.
والسؤال الذي يفرض نفسه هل يستحق تنزيل منظومة إس 400 التضحية بطيارين روسيين وطائرة من طراز سوخوي 24 تصل قيمتها إلى ما يقارب الخمسة والعشرين مليون دولار؟ بالإضافة إلى الرهان على الصداقة التركية، وتوتر العلاقة مع دولة يتوقع أن يصل حجم التعاون الاقتصادي معها إلى مئة مليار دولار بين عامي 2020 –2023.
وهل فعلا تنوي موسكو تصعيد العلاقات مع أنقرة في الوقت الذي تبحث فيه الأخيرة عن التهدئة؟
والإجابة نجدها من خلال العودة إلى الاستراتيجية التي اعتمدها بوتين منذ دخوله عسكريا إلى الأراضي السورية، فقد حرص بوتين على التحرك بخفة بين الثغرات التي تحتويها القوانين الدولية، ليكون أي تقدم له شرعيا وحسب القوانين الدولية، ولا يجر عليه المزيد من العقوبات الاقتصادية التي أرهقت الاقتصاد الروسي لأعوام.
بداية كان دخوله إلى الأراضي السورية بناء على طلب من الحكومة الشرعية للبلاد!، ودعما لصديق وحليف قديم يواجه تنظيمات إرهابية عابرة للحدود. فعلى الرغم من التصريحات الدولية الكثيرة والتي صدرت عن أكثر من حكومة في مقدمتها حكومة البيت الأبيض: أن الأسد فاقد للشرعية، إلا أننا لم نشهد أي إجراءات قانونية ورسمية على ذلك، وهذا تحديدا ما استغلته روسيا لتبرير احتلالها للأجواء السورية. ومن ثم جاءت التعزيزات العسكرية الروسية لتثبيت النفوذ في المنطقة وعليه عملت روسيا على استفزاز تركيا لعدة مرات عبر انتهاك مقاتلاتها للأجواء التركية إلى أن أصدرت تركيا بعد التشاور مع الناتو قرارا رسميا باستخدامها قواعد الاشتباك في حال تسجيل أي اختراق لأجوائها، وعندها تعمدت إدارة بوتين اختراق الاتفاق الدولي والذي كانت نتيجته محسومة قبلا. وعليه خلقت روسيا سببا شرعيا للإعلان عن انضمام منظومتي إس 400 إلى قواتها الدفاعية على الأراضي السورية.
أما عن علاقاتها مع تركيا فلا نتوقع أن تشهد أي تأثر في المجال الاقتصادي لاعتبارات:
أولها: أن الدولتين على خلافات كبيرة في كثير من الملفات والقضايا السياسية ولكنهما يعتمدان على السياسة البراغماتية في إدارة شؤونهم الاقتصادية.
وأما الاعتبار الثاني، الذي نأخذ به، هو ظروف المنطقة وما تعانيه من صراع مع تنظيم الدولة التي باتت تهدد كلا منهما في عقر داره.
والثالث: يعتمد على ما سجل إلى اليوم من ردود فعل روسيا والتي اقتصرت على إجراء قيود على الواردات الغذائية من تركيا، وبعض التشديدات على الرحلات الجوية، وتجميد مشاريع لم تنفذ بعد كإنشاء منطقة حرة بين البلدين، وأما ما صدر من تصريحات عن وزير الاقتصاد الروسي أليكسي أوليوكاييف: إن بلاده قد تفرض قيودا اقتصادية متنوعة على تركيا منها إجراءات لتقييد نقل الغاز (ترك ستريم). فلم يدخل حيز التنفيذ ولا نتوقع أن يصدر كقرار رسمي بهذا.
رابعا وأخيرا: إن وجود منظومتي إس 400 هو بمثابة عرقلة لأي منطقة آمنة ومنع أي عملية حظر جوي قد تسعى إليها تركيا بعد إقامتها للمنطقة الآمنة التي كان من المتوقع لها أن تشمل جزءا كبيرا من الأراضي التي تطمح روسيا إلى اقتطاعها وجعلها كمحمية روسية على الأراضي السورية في فترات قادمة وتثبيت ذلك في معاهدات رسمية مع الحكومة الانتقالية المزمع تعيينها، مقابل التخلي عن دعم الأسد وفك الحظر عن الأجواء السورية.