ناقش يعقوب أولديروت، الباحث في "
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى"، التعريف النظري لـ"
السلفية"، وعلاقتها بتنظيم الدولة، بعد الهجمات التي قام بها في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر بالعاصمة الفرنسية بباريس.
واعتبر أولديروت، في مقال نشر له مع مجلة "فورين أفيرز" أن العلاقة بين استراتيجية التنظيم وسياستها وأيديولوجيتها الدينية معقدة، "ويكمن جزءٌ من هذا الارتباك الواضح في أن السلفية، وهي الأيديولوجية التي يؤيدها
تنظيم الدولة، غير سياسية بطبعها"، موضحا أن "الزعماء السلفيين ظلوا لفترة طويلة من تاريخ هذه الأيديولوجية في القرن العشرين ينتقدون الفئات السياسية؛ لانشغالها بمخاوف معاصرة، وعدم تركيزها بما يكفي على ما اعتبروه تنقية للعقيدة، ولم يبدأ بعض السلفيين السير في الاتجاه المعاكس سوى في أعقاب الربيع العربي"، بحسب قوله.
السلفية و"الإسلاموية"
وأوضح الباحث أن ما أسماه "الإسلاموية" التي تمارسها جماعة "الإخوان المسلمون" هي أيديولوجية حديثة تهدف إلى إدخال ديانة الإسلام في المجال السياسي، كما قد تفعل مجموعة ضغط، على سبيل المثال. ويشتهر الإسلامويون بتشكيل الأحزاب السياسية والمشاركة في الانتخابات وممارسة الضغوط لاستحداث الإصلاحات الدستورية، وتشمل أهدافهم الحكومات والجامعات وأي مؤسسة أخرى يمكنهم إدخال الإسلام إليها، بعكس السلفية.
وأشار أولديروت، في مقاله مع المجلة الصادرة عن "مجلس العلاقات الخارجية"، إلى أن السلفية، من جهة أخرى، سعت إلى "تنقية" الإسلام من التأثيرات الثقافية الغربية ومن قرون من "الانحراف" عن الإسلام الحقيقي (الذي يشمل وفقا لممارسيه المذهب الشيعي والصوفي وحتى السني غير السلفي)، موضحا أن "التيار السلفي سنيٌّ محض، وعند قراءة أي نص سلفي، من الأكثر ترجيحا أن يجد فيه المرء مناقشة لمفهوم فقهي غامض دون أي ذكر لاستراتيجية أو أهداف"، بحسب تعبيره.
وتابع: "يعرف السلفيون الإسلام على أنه كل ما شجعه الرسول محمد وأيدته الأجيال الثلاثة الأولى من أتباع السنة التي جاءت بعده (حتى القرن التاسع)، ويستند هذا الرأي إلى أحد الأحاديث النبوية التي يدعى فيها أن الرسول محمد قال إن: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)".
وبالتالي، فأي شيء ظهر بعد ذلك -وأي شيء لم يتغاضَ النبي محمد عنه صراحة- يعدّ منافيا للإسلام، ويشمل ذلك طيفا واسعا جدا من الأمور. وبطبيعة الحال، فإن الأيديولوجيات السياسية العلمانية والدول القومية والأحزاب السياسية وهلم جرا، جميعها غير إسلامية، وفقا لهذا التعريف. وبإيجاز، ففي حين أن الإسلاموية التي تناصرها جماعة "الإخوان المسلمين" تستوعب مظاهر الحياة السياسية الحديثة، إلا أن السلفية لا تستوعب هذه الأخيرة، بحسب تعبير أولديروت.
سياسة غامضة
ومن المفارقات أن التيار السلفي، على الرغم من أنه أيديولوجية غير سياسية، قد أصبح قوة عظمى في الحياة السياسية في المنطقة، وقد بدأت هذه الحبكة مع "الربيع العربي" الذي انطلق في كانون الثاني/ يناير 2011، وسجل منعطفا كبيرا في مسار تيار الإسلاموية في القرن العشرين.
وأشار أولديروت إلى أن "الربيع العربي" شهد صعود جماعة "الإخوان المسلمين" -أقدم حركة إسلاموية في المنطقة- وهبوطها السريع على أرضها ووسط جماهيرها في
مصر، كما شهد تشكل الأحزاب السلفية في مصر وأماكن أخرى، وهي التي شاركت في الانتقالات السياسية التي أعقبت الثورة، متخلية بذلك عن مبادئ السلفية الرافضة للمؤسسات الحديثة.
في مصر، على سبيل المثال، تشكل "
حزب النور" السلفي في عام 2011. ونظرا لافتقاره التام، كما يحتمل، إلى أي خبرة سياسية سابقة، فقد اتخذ عددا قليلا جدا من المواقف السياسية الجوهرية (وهو سهوٌ تحول في النهاية نحو الأفضل، حيث سمح لأعضاء "حزب النور" بالانفصال في وقت لاحق عن الرئيس المصري محمد مرسي، المنتمي لجماعة "الإخوان المسلمين" محمد مرسي، والصمود أمام الجهود اللاحقة التي بذلتها حكومة زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي؛ لكبح النفوذ الإسلامي في السياسة)، بحسب أولديروت.
وبدلا من ذلك، وبعيدا عن الإصرار على سيادة الشريعة الإسلامية، كما كان جميع الإسلامويين قد فعلوا من قبل، صور "حزب النور" نفسه على أنه ممثل للمجتمع المصري، بتعاونه حتى مع الأقباط. وفي العام الأخير قبل الانتخابات التي تأخذ مجراها حاليا، أزال الحزب من برنامجه جميع الشعارات الدينية تقريبا.
وتبين أن "حزب النور" أكثر تعقيدا سياسيا من الأحزاب الدينية الأخرى في مصر، التي اختارت مهاجمة حكومة السيسي؛ بسبب قمع هذه الأخيرة للمعارضة السياسية، وواجهت العديد من النهايات غير السعيدة. وكان حذق "حزب النور" جليا في مؤتمر تأسيسه في حزيران/ يونيو 2011، حين أعلن رئيس الحزب عماد عبد الغفور أنه سيستخدم "الوسائل القانونية... وليس تلك التي تستخدمها القوى السياسية التي تخدع الشعب المصري... على المصريين أن يعيشوا في بلد يسوده العدل والسلام".
وأوضح الباحث أن جهود "حزب النور" مبهرة، ولكن بما أن الأيديولوجية السلفية لطالما تحظر المشاركة في الحياة السياسية الحديثة، فلم يشكل الحزب حتى الآن نقطة محورية للسلفيين في مصر، حتى لو كان يمثل أيديولوجيتهم. وبدلا من ذلك، قامت عدة جماعات، بدءا من "الجبهة السلفية"، وحتى ولاية سيناء، إما بالتزام الصمت عن مشاركة "حزب النور" في الانتخابات أو انتقاده أو (في حالة الجماعة الأخيرة) معارضته بشكل عنيف، وركزت في خطاباتها على الأبعاد الدينية للأحداث الجارية، التي بإمكانها تقديم تعليقات بشأنها، تلك التي لا تعارض نزعتها الطائفية ولا سلامتها على الأرض، مثل انخراط روسيا مؤخرا في سوريا، إذ أدانت "الدعوة السلفية" -المنظمة الأم لـ"حزب النور"- العمليات بسبب دعم روسيا لنظام شيعي يضطهد السنة.
وفي الأردن، ما زال الزعماء السلفيون خارج الميدان البرلماني. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الفصائل اللاعنفية تدعو إلى الهدوء السياسي بدلا من التحريض الشعبي والعنيف. ووصلت إلى حد إدانة التيار التكفيري الذي يقوده تنظيم الدولة، وحتى أنها انتقدت التورط الفعلي في القضية الفلسطينية، ونتيجة لذلك، فقد اجتذبت انتقادات ليس من الجهاديين فحسب، بل من مختلف شرائح المجتمع الدنيوية أيضا.
وبالنسبة إلى بعض الجماعات السلفية، فإن المشاركة في العملية السياسية، أو عدم عرقلتها على الأقل، كان خيارا استراتيجيا حكيما أبقاها بمنأى عن الأهداف التي تنوي حكوماتها المحلية تدميرها، ومع ذلك، فإن خيارها هذا قد عرضها في الوقت نفسه لانتقادات الأحزاب السياسية الأخرى من جهة ولانتقادات جماعات سلفية أخرى من جهة أخرى، وقد أدى ذلك بدوره إلى فقدانها أنصارها الشعبيين الذين اعتبروا أنها تخون المبادئ من أجل مقتضيات سياسية، بحسب أولديروت.
السلفية وتنظيم الدولة
وفي حالة تنظيم الدولة، الذي تطور من الرؤيا الدينية لأبي مصعب الزرقاوي، الذي أعطى الأولوية -خلافا لزعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن- إلى تنقية الشرق الأوسط من الشيعة وسائر المنحرفين، بحسب أولديروت، الذي أوضح أن تنظيم الدولة يرفض علنا المصطلحات السياسية للدساتير والسياسة الحديثة. أما نصوصه، فبشكل مشابه إلى حد كبير لنصوص الجماعات السلفية الأخرى، فهي حافلة بمناقشات متعلقة بالأحاديث النبوية وأولى المفاهيم الدينية الإسلامية وتصريحات من شخصيات محددة أتت قبل العصر الحديث يعتقد أنها تعلي العقيدة السلفية.
ومع ذلك، تمكن تنظيم الدولة من جعل عقيدته الدينية ذات صلة بالمظالم السياسية في عالمنا اليوم، فبعد أن ولد في العراق الذي يعاني من تزايد المليشيات الشيعية وبعدما شجعته الأزمة السورية التي اتخذت طابعا طائفيا مبطنا بشكل تدريجي، كسبت هذه الجماعة -على عكس تنظيم "القاعدة"- جنود متطوعين من خلال وعدهم بإحلال الإسلام الحقيقي.
واليوم، وحتى في الوقت الذي يضع تنظيم الدولة أهدافا غربية نصب عينيه، فإنه يخصص أيضا قدرا مساويا من الطاقة لإعداد مواد دراسية يشرح فيها وجهات نظره الدينية، وسيعتمد نجاحه في النهاية على هذا البرنامج أي التزامه الراسخ في إنشاء دولة إسلامية أصيلة بدلا من دولة سياسية حديثة.
وعلى الرغم من أن التوسع الإقليمي لتنظيم الدولة وهجماته على الغرب ستستمر في استقطاب المراقبين والسكان المحليين والمؤيدين، إلا أن تلك ليست أسباب نجاحاته. وعوضا عن ذلك، فإن تجاوزه الثابت عقائديا للثقافة السياسية الغربية هو ما سمح له بحصد هذا العدد الهائل من الجنود المتطوعين. ووفقا لذلك، لا يمكن لأي إجراء ينطوي على "مواجهة" خطابية لسرد تنظيم الدولة أن ينجح من دون تدخل عسكري، بحسب أولديروت.
مواجهة تنظيم الدولة
ودعا أولديروت لمواجهة خطر تنظيم الدولة في العالم، وللفهم بأن هذا التنظيم، شأنه شأن الكثير غيره من أنصار السلفية، يشكل جزءا من فصل جديد في كتاب الإسلاموية. فهذه الكيانات ملتزمة بنصوص ومفاهيم أساسية صيغت منذ زمنٍ بعيد جدا، وتظهر للمرة الأولى في تاريخ هذا الدين أنها قادرة على تطبيقها.
وعلى الرغم من أن السلفية اللاعنفية ستستمر باستمالة أولئك الذين هم أكثر قلقا بشأن البقاء على قيد الحياة في مجتمعاتهم المحلية، يجب التأكيد هنا على أن هذه الأصوات اللاعنفية تمثل غالبية السلفيين في العالم، وأن مخطط تنظيم الدولة سيستمر في اجتذاب الكثيرين والتوسع طالما تملك الجماعة السبل لفرض طريقتها في التفكير، بحسب قوله.