أعترف بأني تهربت من أداء الخدمة العسكرية الإجبارية. دخلت الجامعة لكي لا أدخل الجيش. بل تعمدت الرسوب للبقاء في الجامعة. كنت طالبا كسولا. كنت مشغولا بحبي الأول. فقد عملت في الصحافة باكرا.
وكانت سمعة الجيش سيئة. فلم يكن الجيش السوري الجيش الوطني المثالي الذي تسلمته سوريا من سلطة الانتداب الأجنبي. ولست بحاجة إلى برهان. تكفي الإشارة إلى ما يفعله الآن. وكنت أسمع من الرفاق الذين أدوا الخدمة العسكرية شكواهم المرة، من انشغال الضباط بالسياسة عن التدريب. ومن سوء المعاملة. وبذاءة الجنود وصف الضباط المكلفين بتدريب المجندين، بمن فيهم خريجو الجامعات.
وبحكم عملي، علمت بصدور أمر سري عرفي بقبول البدل النقدي، ليستفيد منه أبناء ضباط الانقلابات. ولم يكن بإمكانهم سوى مساواتي بهم. دفعت البدل النقدي. كان ألف ليرة سورية آنذاك. وأصبحت حرا في الإقامة. والسفر. ومغادرة الجامعة وأنا في سنة التخرج الأخيرة. ولم يسلني أحد عما إذا كنت أحمل شهادة جامعية أو دكتوراه. فمن حسن حظي أن الصحافة خبرة وليست شهادة.
لست نادما. فعندما ألغت حكومة حزب «البعث» الصحافة الحرة، غادرت سوريا (1963). لم أعد أتحمل الذهاب مرتين في الأسبوع إلى مكاتب التحقيق في أجهزة المخابرات. أو رؤية الحاكم العرفي أمين الحافظ، وهو يدور بعقبية، و«بسطاره» العسكري يئز بمساميره على رخام سراي الحكومة القديم، فيلقي في النفس صدى الرهبة والتشاؤم، من المستقبل الذي ينتظر سوريا.
ولعل الذين سمعوا «أبا عبدو» وهو يتحدث بعد سنين طويلة في تلفزيون «الجزيرة»، أدركوا أي مستوى ثقافي متدن يتمتع به ضابط حكم سوريا. وبعدما قضى «أبو عبدو» على المعارضة الشعبية، قضى ضباط «البعث» الطائفي (حافظ الأسد وصلاح جديد) على مستقبله السياسي، بانقلاب عسكري (1966).
أُودع أمين الحافظ السجن. ثم استدعى حافظ الأسد «ترزيا» صمم لأبي عبدو بدلة مدنية قصيرة الأكمام. وألقى به خارج الحدود على هذه الهيئة المزرية. تناسى عبد الناصر ظهور «أبي عبدو» أمامه بمسدس كان يحمله في زناره. ودعاه إلى الإقامة في مصر. لكن الطيور على أشكالها تقع. فقد لجأ أمين الحافظ إلى عراق صدام.
بعد سقوط صدام، وقف الفريق أمين الحافظ على الحدود، متوسلا بشار السماح له بالعودة. عاد أمين الحافظ (2003). فلم يعد يشكل خطرا على النظام. ومات بصمت العزلة في مدينته حلب (2009)، عن 88 عاما. فلم يدرك الانتفاضة التي انفجرت في عام 2011.
مع تكاثر الحديث عن مفاوضات تؤدي إلى إقامة دولة ديمقراطية في سوريا، أقول إن في مقدمة شروط الديمقراطية تحييد المؤسسة العسكرية عن السياسة. وإلزامها دستوريا بعدم التدخل في الحياة المدنية. واقتصار مهمتها في الدفاع عن الوطن. وإخضاعها عمليا للسلطة السياسية المنتخبة شرعيا من الشعب. وتقييدها بقرار الحكومة في زمن الحرب والسلم.
جانب من المأساة السورية راجع إلى تاريخ من شقاء تدخل «جيش الأقليات» الموروث عن عهد الانتداب الدولي، في الحياة السياسية والمدنية بالقوة والإكراه، بحجة الإصلاح. ومكافحة الفساد. ولم يستطع النظام الاستقلالي الديمقراطي برئاسة شكري القوتلي، فرض التوازن الطائفي في الجيش، ليغدوا حقا جيشا وطنيا وعربيا. ولم يُقبل أبناء المدن الكبرى، كدمشق وحلب، على الانخراط في الجيش. فظلت الغلبة فيه لأبناء الأقليات، بتشجيع من زعماء «البعث»، كأكرم الحوراني وميشيل عفلق.
انعدام الثقافة الديمقراطية أتاح المجال لاستمرار التدخل العسكري. واغتصاب السلطة. وإلغاء السياسة. صفق السوريون ببلاهة لانقلاب حسني الزعيم (1949)! ثم حملوا على الأكتاف حافظ الأسد بعد ترئيسه لنفسه، في الانقلاب الذي أوصل أسرته وطائفته إلى احتكار الحكم والسياسة، منذ عام 1970 إلى الآن.
لم أعمل في السياسة. لذلك أستطيع أن أكون أمينا في مصارحة التنظيمات المعارضة المسلحة. وتحذيرها من التدخل، لرسم مستقبل سياسي أو ديني لسوريا الجريحة، عن طريق الحرب. أو بالتفاوض مع النظام. وأذكّرها بأن إدارتها للمناطق المدنية المحررة، كانت شقاء لملايين المدنيين. وتسببت مع غارات النظام الهمجية، بهجرة مسكونة بالألم والتشرد في جميع أنحاء العالم.
ومشاركة هذه التنظيمات في المفاوضات يجب أن تقتصر على ترتيب بناء جيش وطني محايد سياسيا. وكيفية تسليم أسلحتها له. وطرد العناصر الإرهابية الأجنبية. والميليشيات المدعومة إيرانيا. وسحب مرتزقة «حزب الله». والقوات الروسية المشاركة لجيش النظام في ارتكاب المجازر.
وأذهب إلى مناشدة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تمكن من جمع المعارضة متغلبا على الاستحالة، أن يحول دون تسلل أو دخول التنظيمات المسلحة إلى دمشق والمدن السورية، بتسهيل من النظام. أو بالاتفاق معه في المفاوضات. فقد سبق للنظام أن سلم مدينتي الرقة ودير الزور إلى «داعش» من دون قتال جاد.
أثبتت السعودية والدول الخليجية حرصها على وحدة التراب السوري، ضمن المنظور القومي للوطن العربي. وهي ترى ما حدث ويحدث في الصومال. وليبيا. والعراق. ولبنان. واليمن، عندما تمكنت الميليشيات المسلحة من دخول المدن. وجعل المجتمع المدني متراسا لتقاتلها. ومنازعة الجيوش العربية، على دورها في الدفاع عن الوطن. وحماية الأمن المدني.
بنت تونس. والمغرب. والدول الخليجية. ومصر جيوشا وطنية محايدة سياسيا. وملتزمة بأمر السلطة الشرعية المدنية. ولم تعرف سوريا أن تفعل ذلك. ولم يعرف الدمشقيون الذين يرزحون الآن تحت وطأة نظام جائر، كيف يتيحون لدولة الوحدة مع مصر أن تفعل ذلك. ولا أجد سوريا الآن متنبهة لفعل ذلك، بسبب غفلة بعض ساستها الهواة الجدد الذين لا يعرفون جوهر وتفاصيل الحياة الديمقراطية.
سقطت المؤسسة العسكرية من حضن الديكتاتورية المدلِّلة لها والمعتمدة عليها. وحلت محلها المؤسسة المخابراتية الرادعة للعسكر والمخيفة للمدنيين. في سوريا، ترك الأب عسكره يدمرون في «غيبوبته» مدينة حماه فوق رؤوس ميليشيات «الإخوان» الطائفية المعتصمة فيها (1982). ثم أدب ضباط المؤسسة العسكرية «المنتصرين» بتسفيرهم إلى روسيا. وبنى مع نجله الأول مؤسسة مخابراتية حارسة لنظامه. ورادعة للجميع. فجعل منها نجله الثاني أداة قمع. وحول المؤسسة العسكرية إلى أداة إبادة وقتل.
الديمقراطية في اليابان وألمانيا ضمنت بناء جيش (قوة دفاع في اليابان) للدفاع الوطني. وليس للمغامرة العسكرية في الخارج. أجبر الجنرال شارل ديغول الجيش الفرنسي على الانسحاب من الجزائر. ثم حال الجيش الجزائري دون أن يسلم نظام الشاذلي بن جديد الجزائر إلى ميليشيات «جبهة الإنقاذ» في نهاية الثمانينات. وقتل منذ ذلك الحين عشرات ألوف الجزائريين، للحيلولة دون سيطرة منظمات الإرهاب على المدن الكبرى.
الدبابات لا تتولى حراسة قصر الإليزية الرئاسي في باريس. ولا البيت الأبيض في واشنطن. ولا قصر بكنغهام الملكي في لندن. فلماذا لا تحدث انقلابات في الدول الديمقراطية المستقرة؟! لأن هناك شعوبا مستعدة للتضحية بالحياة من أجل حماية الديمقراطية. وقيم الحرية من العسكر. ومن إرهاب التنظيمات المتزمتة. والأحزاب العنصرية المتطرفة.
الجيوش في الدولة الديمقراطية الغربية كالكنيسة. فهي موجودة. وضباطها، كالكهنة، عواطفهم وقلوبهم على اليمين. لكنها محيّدة سياسيا إلى حد بعيد. كل ما يستطيع أن يفعله الضباط الكبار، في زمن الفوضى والحروب، أن يهمسوا بالنصيحة والمشورة في الآذان الطويلة للمسؤولين والساسة المنتخبين شعبيا.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية