التقته زوجه في طرقات المدينة، كانت المدينة ترتجف من بَرْدِ الثلج، وكان المُطارَدُ يرتجف من الحمّى، وكانت الزوجة عروسًا لا يجمعها بزوجها سقف واحد، والطرقات مشحونة بالثلوج، والسماء مشحونة بحبات البَرَدِ الثقيلة والريح العاصف، وكانت أقدامه مثخنة بالضعف يترنح فوقها جسده المنهك بالحمّى والبرْد، لولا كفّها الدافئ، ما أضيق المدينة وما أوسع كفها، ما أضيق الحياة وما أوسع عينيها، وعقله المحترق بالتفكير: "عسى أن يعيق الثلج القوات الخاصة، إن وجدت، حتى نصل إلى حجرة تقلّ ضعفنا وترحم خوفنا".. حمله كفها، وقلبه الدافئ.
في الحجرة الخالية من كل شيء سوى مكتب خشبي، وسجادة، ومدفئة كهربائية؛ شغّل المدفأة وافترش السجادة، وجلست، وتوسّد حِجْرها، والبَرَدُ يطرق زجاج النافذة، وغفا في حضنها، ورأى في منامه ليلة اعتقاله الأول، حينما عاد من صلاة التراويح في مسجد المدينة الكبير إلى بيته وسط الثلوج المتراكمة، حتى طرق الاحتلال باب بيته وجروه وسط الثلوج، وأخضعوه للشبح والتحقيق على كرسي خشبي صغير في ساحات مركز التحقيق، وقد تجمّدت أطرافه المقيدة، إلا أنّ قلبه بقي دافئًا بأمه وإخوته الصغار.
استفاق من نومه، وجدها على جلستها، وقد دثّرته بشيء من ثيابها، نظر في ساعته، ووجد أنه نام ثلاث ساعات وهي على نفس الجلسة، تحتضن رأسه، تذكّر حينما قالت له ذات مرة: "تزوجتك كي أدخل بك الجنّة". بعد ثلاثة شهور دخلت القوات الخاصة المدينة في يوم دافئ، داهموه فجأة في الشارع وهي معه، نزعوا كفّه من كفها، منعوها من زيارته، زارته مرة واحدة فقط، لم يصافحها، فصلهم جدار زجاجي لم يمنع بصره أن يلتقط الأفق الذي يتجلى في عينيها، خبأ خيطًا من ذلك الأفق في قلبه، بساطًا من أمل.
الحياة ضيقة جدًا، ومزدحمة بالظالمين، يفرقون الجماعات، ويحاصرون الودّ والرحمة، وينكّلون بالرضا في القلوب الكبيرة، والأفق في العيون الوسيعة. انتزعه آخرون هذه المرة، من بيته، من بين يديها، وغيبوه طويلاً، وهي تدور على مؤسسات حقوق الإنسان، والمحامين، وكل صاحب شأن، وبيتها فارغ إلا منها ومن قهرها، ما أوسع البيت، ما أضيق البيت، ما أوسع الجنّة التي تزوجته لأجلها.. وسجنه ضيق كئيب، وأسئلته قلقة تذوي معها عافيته، لكن في قلبه بقية من فكرة تقاوم، وخيطًا من أفق عينيها العتيق.
يجلس اليوم قرب المدفأة، ينظر في عينيها، مستعيدًا يومه الثلجي ذاك، متذكرًا الرضا الذي لم ينقطع، والحمد الذي لم يفتر، رضاها هي، حمدها هي، وثقتها بربها هي، ويسأل أي فكرة تمنح الإنسان الضعيف كل هذه القوّة، وأي إيمان لا ينقطع معه حبل الرجاء ولا يبلى، وكم من أم وزوج وبنت عاشت هذه القضية في عالم العرب الواسع بالجغرافيا والضيق بازدحام الظالمين، لا يفتر حمدها ولا ينقطع رضاها ولا تذبل الفكرة في ضميرها حتى وإن كانت وحدها، وكان العالم ملبدًا بالظالمين. ينظر في عينيها مرة أخرى ويردد: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".