يقوم الفكر النقابي على عماد المدافعة والندية في المطالبة بالحقوق بينما يقوم الفكر التقليدي للحركة الإسلامية على مفاهيم الأخوة والثقة والسمع والطاعة والتحرج من النقد العلني، وهو ما يجعل الهوة واسعة بين النمط التقليدي للفكر الإسلامي وبين إيجاد
نقابات حقيقية فاعلة قادرة على تمثيل مطالب واهتمامات القاعدة الشعبية أو العمالية العريضة.
كان ميلاد الفكر النقابي خطوة مهمة في طريق تحقيق قدر أكبر من العدالة الإنسانية، فبدون النقابة يعد العامل مجرد أجير يتصدق عليه رب العمل ممتنا فإذا غمطه حقه أو طرده من عمله لم يجد سندا أو ظهيرا، وفي ضوء هذه المعادلة يصبح التوسل الذليل والتملق وتصغير النفس وتجنب إسخاط السيد هو الطريق الوحيد ليحافظ العامل على مصدر رزقه، أي يتحول العمل إلى شكل صارخ من أشكال العبودية وامتهان كرامة الإنسان، لكن الفكر النقابي يعني أن العمال يتحولون إلى قوة موازية لأرباب العمل لهم صوت عال لإيصال مطالبهم ولديهم أوراق قوة يستطيعون الضغط بها لإلزام الجهة المشغلة بمطالبهم أو على الأقل لدفعها للتفاوض معهم والتوافق على كلمة سواء.
إن فلسفة العدل في النشاط الإنساني تمر عبر توزيع مراكز القوى، فأحادية القوة هي الطريق الحتمي نحو الاستبداد والفساد: "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، "ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض". حين يتفرد الإنسان في امتلاك القوة ويأمن المحاسبة فإن شعورا بالانتشاء والتسلط يملأ قلبه ويميل غالبا إلى التصرف كإله متعال فيبطش ويظلم ويطغى، لذلك فإن أهم ما يميز النظام السياسي الحديث الذي اهتدى البشر إليه هو تعدد السلطات، فهناك جهات حاكمة ثلاث هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، ولا يوجد لأي من هذه السلطات قوة مطلقة بل تقيدها السلطات الأخرى، وهناك السلطة الرابعة متمثلة في الإعلام الحر الذي يراقب أفعال المسئولين، و هناك أحزاب المعارضة التي تشكل قوة ضغط على الحزب الحاكم فتحول بينه وبين سوء استغلال سلطاته وتقوم بدور الرقيب على أي تجاوزات، وهناك أيضا النقابات والاتحادات التي تستمد شرعيتها من الجمهور مباشرة وتمثله في مواجهة قوة الجهات التنفيذية، وبذلك يعمل توزيع السلطات على إيجاد حالة توازن تمنع أصحاب القوة من أن يميلوا كل الميل أو أن يشططوا عن سواء الصراط.
أتحدث عن الفكر النقابي وليس عن النقابة، لأن النقابة كهيئة شكلية قد توجد لكن دون فاعلية واستقلال حقيقي بدورها، فحتى السيسي أنشأ برلمانا! لكنه برلمان صوري دوره التصفيق وأعضاؤه "تيوس مستعارة" وظيفتهم الوحيدة تحليل اغتصاب السلطة. الفكر النقابي يعني أن يستشعر النقابيون دورهم الحقيقي في تمثيل منتخبيهم في مواجهة السلطة التنفيذية والدفاع عن حقوقهم، وأن يتحرروا من أي شعور بالدونية والتبيعة والتماهي مع هذه السلطات، فهم ليسوا جزء من السلطة بل أنداد لها يكبحون جموحها ويصدون طغيانها.
التحدي الحقيقي في العمل النقابي لا يظهر حين تنتخب النقابة من حزب معارض للسلطة التنفيذية، فهنا تتكفل الطبيعة التلقائية للأشياء بتحقيق التمايز بينهما، إنما يظهر التحدي حين تكون النقابة من نفس لون السلطة التنفيذية، هنا يكون الصراع بين ثنائية الولاء أم المهنية، السياسة أم العدالة، الانحياز للمصلحة الحزبية الضيقة أم للمبدأ الأخلاقي، الانحياز للسلطة القوية أم للعامل الضعيف. إن عوامل عديدة لا تزال تعوق ولادة بيئة نقابية حقيقية في مجتمعاتنا العربية من أهمها الاستقطاب السياسي والطائفي والأيديولوجي الحاد الذي تطغى فيه الشعارات على البرامج العملية والحقوق الإنسانية، ففي أجواء الاستقطاب يشحن الجمهور بمشاعر التحدي والخطر التي تستوجب اصطفافا أعمى خلف القيادة وتشكيل كتلة صماء صلبة لإسقاط المؤامرات الحقيقية منها والمتوهمة، وحين تسود هذه الأجواء يصبح أي حديث عن حقوق ومبادئ في نظر القيادة والجمهور المعبأ ضربا من الترف يصب في خدمة الأعداء وتنتهك الكثير من المبادئ بزعم أن الوقت المناسب لإثارة هذه القضايا ليس الآن. في ظل الشحن والاستقطاب وصناعة الخوف لا ينظر إلى الإنسان بأنه إنسان له كامل الحقوق الأساسية بل ينظر إليه أنه ترس في آلة كبيرة فهو إما معنا، وفي هذه الحالة يحظر عليه النقد حتى لا يستفيد الأعداء من كلامه لصالحهم، وإما إنه علينا وفي هذه الحالة ليس له حقوق، حتى لو طالب بحقوق مطالبية صرفة لا علاقة لها بأي أجندة سياسية: "ليس علينا في الأميين سبيل". إن أجواء الشحن والاستقطاب والخوف هي الحالة المثالية لانتهاك العدالة والحقوق.
العمل النقابي في البيئات
الديمقراطية الصحيحة هو عمل خدمي خالص متحرر من الاستقطابات والحسابات السياسية، فعلاقة النقابي بالعامل الذي يمثله هي علاقة المحامي بموكله، مهمته إيصال صوته والمطالبة بحقوقه وتحسين خدماته، وعلاقة النقابي بإدارة العمل ليس بالضرورة أن تكون صدامية دائما، لكن يحظر أن تكون علاقة التماهي وتوزيع الأدوار وإعطاء صورة خادعة لوجود عمل نقابي مع غياب حقيقته. إن مدير الشغل في نظر النقابي لا ينبغي أن يكون أخا أو رفيقا حزبيا، بل هو جهة تعاقد اجتماعي يجب أن تلتزم بشروط التعاقد وأن تحسنها بما يحقق مصالح جهة التعاقد الأخرى وهي الجمهور ومن يمثلهم.
مشكلة العمل النقابي في بلادنا العربية مشكلة عامة نجدها في كافة التيارات والإيديولوجيات، لكن العنصر الإضافي لدى الإسلاميين هو سوء استغلال مفاهيم الثقة والطاعة والأخوة بما يجعلها مدخلا لسوء الإدارة والتقصير في أداء الأمانة، فمن يتربى على هذه المفاهيم يتعزز لديه شعور بأن قيادته قد أحاطت بكل شيء علما وأنها تمتلك من نفاذ البصيرة وسعة الأفق ما يغني عن أي إضافة، وأن كل ما عليه هو أن يمنحها ثقته ثم ينتظر النتائج السحرية بعد أجل غير مسمى. إن العنصر الإسلامي لا ينظر إلى قيادته بأنها جهة تنفيذية ينبغي مراقبة أدائها ومحاسبتها بل ينظر إليها بأنها القيادة التي ضحت وظُلمت وتكالب العالم عليها فوجب إعانتها بحسن الظن بها وغض الطرف عن سقطاتها، وهذا خلط في غير موضعه، فالتضحية ليست ستارا لسوء الأداء الإداري والسياسي. إن مبدأ الأخوة ذاته يقتضي أن تعين أخاك على القيام بالحق والعدل، وهذا لا يكون إلا بأن تتصدى لأي انتهاك للمبادئ وأن تكون نصيرا للضعفاء وصوتا مناديا بحقوقهم.
من أخطاء الإسلاميين في العمل النقابي الخلط بين مرحلتي الاستضعاف والتمكين، فتظل ذات المفاهيم التي كانت سائدة في مرحلة السجن هي المشكِّلة لنفوسهم في مرحلة الحكم. في مرحلة السجن تسود صورة البطولة والمظلومية لأن الجماعة تكون واقعة تحت ظلم كبير فيتعاطف المرء معهم، لكن في مرحلة الحكم كما في قطاع غزة تصبح الجماعة مسئولة عن شئون الناس مما يقتضي مقاربة جديدة في التعامل معها، فهي محاسبة إن قصرت، ونقد أخطائها في الشئون العامة يجب أن يكون علنيا لأننا لا نتحدث عن أسرار تنظيمية بل نتحدث عن شروط تعاقد اجتماعي بين الحاكم والشعب، فوجب على الحاكم أن يؤدي واجباته ما دام الشعب قد منحه ثقته.
في تجربة نقابة العاملين في قطاع غزة مثال على هيمنة مفاهيم الثقة والأخوة لا مفاهيم العمل النقابي، فهذه النقابة التي شكلت بعد تنكر حكومة الحمد الله لحقوق موظفي الحكومة السابقة تم تشكيلها بقرار سياسي مما أفقدها مصداقيتها وأضعف قدرتها على القيام بدور فاعل يخدم العاملين بتجرد دون أن تقيد نفسها بمقيدات التنظيم وقياداته، وقد كان يفترض أن تشكَّل انطلاقا من شعور ذاتي بحاجة العاملين إليها وأن تواجه الحكومة أيا كان لونها لا أن تستدعى في وقت ما لأداء دور ما، ووصلت هزلية المشهد ذات مرة أن القيادة السياسية استدعت هذه النقابة وجه النهار للاعتصام أمام مقر اجتماع الحكومة في قطاع غزة ثم أمرتهم آخر النهار بأن ينسحبوا من هذا الاعتصام فخضعوا بكل طواعية للتعليمات السياسية لأن نفوسهم لم تتشرب بأنهم نقابيون يمثلون مطالب العاملين لا تقديرات السياسيين.
إن مفاهيم الثقة والأخوة وحسن الظن تصلح في العلاقات الأخوية المجردة لكنها لن تنجح في إقامة حكم رشيد ما لم تعضد بمفاهيم المراقبة والمحاسبة وإعانة المسؤول على نفسه بإلزامه بطريق الاستقامة وأداء حقوق الناس بكل أدوات الضغط المتاحة.