يقول المحلل الصحافي إيان بلاك في تقرير له في صحيفة "الغارديان"، إن معظم مشكلات الشرق الأوسط هي نتاج الحرب العالمية الأولى منذ أكثر من قرن.
ويصف الكاتب الترتيبات البريطانية والفرنسية لمرحلة ما بعد الدولة العثمانية قائلا: "في لحظة خاملة بين حفلات الكوكتيل في دولة عربية، كان يعمل فيها دبلوماسي بريطاني وفرنسي، وأثناء حديثهما حول إرث كل منهما في الشرق الأوسط، قالا: لماذا لا نخلد اللحظة بفرقة روك جديدة؟ ولماذا لا نطلق عليها سايكس-بيكو ووعد بلفور". قالها بلاك مازحا.
ويستدرك بلاك قائلا: "لكن اتفاقيات الحرب العالمية الأولى التي طبخت في لندن وباريس في الأيام الأخيرة للدولة العثمانية، عبدت الطريق لولادة الدولة العربية القطرية وإسرائيل، واستمرار مأساة الشعب الفلسطيني. وإذا كانت ذاكرة الاتفاقيات قد تلاشت في الغرب مع اقتراب المئوية لها، إلا أنها مسؤولة بشكل كبير عن المشكلات في المنطقة في وقت ينتشر فيه العنف".
وينقل التقرير عن البروفيسور الباحث في التاريخ الحديث للشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد يوجين روغان، قوله: "لن تنسى الشعوب العربية هذا التاريخ؛ لأنها تراه مرتبطا بالمشكلات التي تواجهها اليوم".
ويشير الكاتب إلى أنه "عندما قام تنظيم الدولة عام 2014 بتمزيق الحدود الصحراوية بين العراق وسوريا، ورفع أعلامه السود فوق دبابات (همفي) الأمريكية الصنع، وأعلن عن إنشاء خلافة عابرة للحدود، فقد أعلن مقاتلوه وفاة معاهدة
سايكس بيكو، وهو ما منح الاتفاق المنسي تقريبا، الذي تم تقديمه بطريقة غير جيدة، دورا مهما في دعايته، وحياة جديدة على (تويتر)".
ويجد بلاك أن "أنصاف الحقائق تخدع الناس لفترة طويلة، فالاتفاق السري بين سير مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو، الذي قاما بموجبه في أيار/ مايو 1916، بتقسيم أراضي الدولة العثمانية بين
بريطانيا وفرنسا، ظهر للعلن عندما نشره البلاشفة".
وترى الصحيفة أن هذا يناقض الوعود الأولى التي قطعتها بريطانيا لشريف مكة الحسين بن علي، قبل أن يعلن ما أطلق عليها تي إي لورنس "ثورة في الصحراء" ضد الأتراك، مستدركة بأنه مع أن الاتفاق لم يرسم الحدود بين الدول العربية التي ظهرت لاحقا، إلا أنه أصبح يختزل ازداوجية المعايير الغربية والغدر.
ويورد الكاتب أن "ما قوض الاتفاق أيضا هو
وعد بلفور في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، الذي يتذكره الفلسطينيون بألم مستمر لعقود كيف (تنظر حكومة جلالته بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي...)، عندما كانت الصهيونية ردا جديدا على معاداة السامية في أوروبا، وكان اليهود أقلية في الأرض المقدسة".
ويقول بلاك إن "مسؤولي وزارة الخارجية وهم يتطلعون إلى الأمام، يقومون بعصف دماغي لكيفية إحياء هذين الاتفاقين. وهي عملية أصعب من إحياء ذكرى العمليات العسكرية في الحرب العالمية الأولى، معركة فلاندرز وغاليبولي وسوم؛ لأنه يمكن الاحتفال بالتضحيات التي قدمها البريطانيون ودول الحلفاء وتكريمها، لكن الاتفاقين كانا فعلا سياسيا ترك مخلفات سامة واستياء ونزاعا".
ويفيد التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، بأن "المؤيدين للفلسطينيين يطالبون بريطانيا بتقديم اعتذار عن وعد بلفور، وهو أمر غير محتمل؛ لأنه صدر في ظروف تختلف عن اليوم، ولا يمكن إلغاؤه. وسيظهر وغيره من الاتفاقيات التي عملتها بريطانيا أثناء الحرب في البيانات والدبلوماسية العامة المصممة من أجل خلق فهم للدور التاريخي المثير للجدل، الذي لعبته بريطانيا".
ويلفت الكاتب إلى أن "التركيز على سايكس بيكو قام على رسم خط من (E) يبدأ من عكا في فلسطين إلى (K) في كركوك العراق، خاصة أن الاتفاق فقد محتواه في السنوات الدموية التي تبعت الربيع العربي. فأكراد العراق يتمتعون بحكم ذاتي منذ عام 1991، ويؤكدون هذا مع أنهم يعدون استثناء. لكن سوريا تواجه خطر التقسيم الفعلي؛ بسبب الحرب الأهلية التي مضى عليها خمسة أعوام تقريبا، وليس باعتبارها خلق استعماري (مصطنع)".
ويعلق بلاك قائلا: "في الحقيقة، هناك العديد من المؤرخين يؤكدون بطريقة تناقض دعاية تنظيم الدولة، أن الدولة العربية القطرية في مرحلة ما بعد الحرب أثبتت أنها قادرة على التحمل. ومن الخطأ تصوير الجهاديين، كما فعل ريدار فيزر، الذي وصفهم بأنهم (الذين يستجيبون لحاجة شعبية كامنة عروبية وإسلامية، تدعو إلى توحيد الشعبين السوري والعراقي معا)".
وتستدرك الصحيفة بأن المفهوم أحيانا هو الواقع، فبحسب روغان "فقد تركت الاتفاقيات التي عقدت أثناء الحرب إرثا من الإمبريالية وعدم ثقة من العرب بسياسة القوى الكبرى والإيمان بالمؤامرة (فالتقسيم السري لم يكن سوى مؤامرة)، وأن الشعوب العربية تتحمل مسؤولية حظها العاثر منذئذ".
وينوه الكاتب إلى أن فلسطين لا تزال جرحا مفتوحا، وينقل ما كتبه المؤرخ رشيد الخالدي: "شهدت الفترة منذ وعد بلفور ما يمكن أن يوصف بأنه حرب المئة عام ضد الشعب الفلسطيني". مشيرا إلى أنه "مع ذلك فلا رد رسميا من المسؤولين البريطانيين في المئوية الأولى للوعد سيذهب أبعد من التأكيد على الحاجة إلى بناء دولتين للشعبين اللذين يعيشان في الأراضي المقدسة".
وبحسب التقرير، فإن الأحداث الأخيرة ستكون مثيرة للمشكلات، فسيشهد عام 2016 نشر تقرير تشيلكوت، الذي طال انتظاره، والذي يحقق في ظروف مشاركة بريطانيا بغزو العراق عام 2003. ويعلق توبي دودج من مدرسة لندن للاقتصاد قائلا: "تقدم تنظيم الدولة لم يتسبب به الإرث الاستعماري الأنكلوفرنسي، ولكن الخلل في السياسة المعاصرة"، التي شكلت بعد الإطاحة بصدام حسين.
ويذكر الكاتب أنه "في عام 2016 سنشهد الذكرى الستين للغزو الأنكلوفرنسي بالتعاون مع إسرائيل لمصر، أو ما يعرف بأزمة السويس في عام 1956. وهي حادث كلاسيكي عن النفاق الغربي، والطغيان العالي الذي لا يزال يتذكر في القاهرة والعواصم العربية الأخرى بـ (العدوان الثلاثي)".
وتنقل الصحيفة عن السفير البريطاني السابق في لبنان توم فليتشر فوله: "ونحن نقترب من هذه الذكريات، فنحن بحاجة إلى تذكر ذلك التاريخ وموقعنا فيه".
وتختم "الغارديان" تقريرها بالإشارة إلى قول فليتشر: "نحن بحاجة للتأكد من عدم استخدام الدور الذي لعبه الغرب كذريعة لكل مشكلة في المنطقة. ولو كنا ماكرين، كما يعتقد البعض، لكانت لنا إمبراطورية. وفي الحقيقة فنحن بحاجة إلى رؤية أمن وعدل وفرص في أنحاء الشرق الأوسط كله، ويجب أن نكون جزءا من هذه المؤامرة".