يجري الصراع السعودي
الإيراني في اطار صراعات عالمية متضاربة تهدف للسيطرة أو الحصول على نصيب أو دور في سياسات المنطقة، و رغم تضارب المصالح وتعارض السياسات فان اللاعبين من خارج المنطقة، أمريكا وروسيا وتركيا قد توصلوا إلى نوع من التفهم لوجود توافق على إعادة تركيبة دول المنطقة، وسط قلق تركي ضار دفعها للبحث عن تحالفات خارج اطار الناتو واتجاه لتطوير تسليحها للحالة الهجومية رغم مظلة حماية الناتو. ولعل هذا الصراع هو أكبر خطر تواجهه المنطقة، ليس فقط في المشرق العربي ولكن في الوطن العربي كله وهو أمر لا تعطيه مصر ودول المغرب العربي حقه حتى الآن.
فعلى خلاف الصراع الطائفي المذهبي المتفجر في المنطقة منذ إعدام الشيخ نمر النمر، لا يبدو الموضوع متعلقا بخلاف المذهبيْن السني والشيعي، بقدر ما هو مرتبط بحسابات القوة والصراع الضاري بين
السعودية وإيران على الهيمنة الإقليمية.
ليست القصة هنا أن كان الإعدام عادلا أم لا فضلا عن أن كلا النظامين، السعودي والإيراني، يحتل المراتب العالمية الأعلى في تنفيذ عمليات الإعدام، وكلاهما يستند على الحكم الديني كأساس للمشروعية السياسية وعلى التأويلات الفقهية الإسلامية لتبرير الإعدامات، وكلاهما لديه أقلية دينية داخل حدوده، وكلاهما يستخدم المذهبية لتمديد النفوذ خارج الحدود.
نحن أمام لاعبين إقليميين كبيرين، يتوفران على مصادر لا يستهان بها من النفوذ والقوة، يتصارعان في الإقليم وفقا لحسابات باردة تتعلق بتوازنات النظام الدولي، وقد لعب كل طرف لعبته بحسابات باردة وتركا معا التسخين المُمَذهب لوسائل إعلامهما.
الرياض أخذت وقتها في اختيار التوقيت الملائم لتنفيذ الإعدام بحق الشيخ النمر (الاعتقال تم العام 2012 والحكم بالإعدام العام 2014 والتنفيذ في العام 2016) بتوقع ردة فعل إيرانية حادة، ومن ثم توظيفها كمادة لاصقة لتصميم اصطفافات جديدة بهدف عزل إيران إقليميا. طهران والدوائر المتشددة فيها من ناحيتها، سمحت باقتحام السفارة السعودية احتجاجا على تنفيذ الإعدام، ولكن على خلفية حسابات تتعلق بالصراع الداخلي قبل انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء الشهر المقبل، بهدف تخريب فرص روحاني والإصلاحيين فيها.
ويمثل الاتفاق النووي بين إيران والغرب، بما يعنيه من فك العزلة على إيران وعودتها إلى المجتمع الدولي ـ من المنظور السعودي ـ تهديدا مباشرا لنفوذها الإقليمي الذي يتعرض إلى تحدٍ إيراني في ساحات الحرب بالوكالة في المنطقة.
وقد راقبت الرياض، منذ صعود باراك أوباما إلى السلطة في واشنطن العام 2009، كيف بدأ التحالف السعودي - الأميركي في الاهتزاز، عبر محطات إقليمية مختلفة بداية من «الربيع العربي» مرورا بالأزمة السورية وليس انتهاء بالمفاوضات النووية مع إيران. وكان الاتفاق النووي بين إيران والغرب العام 2015 دليلا على التغير العميق والحاد في نظرة واشنطن إلى المنطقة، بحيث لم تعد طبيعة التحالف السعودي - الأميركي، ذلك الممتد منذ «اتفاقية كوينسي» في العام 1945 خلال اللقاء الشهير الذي جمع الرئيس الأميركي الأسبق أيزنهاور مع الملك السعودي المؤسس عبد العزيز على ظهر البارجة «كوينسي» في البحيرات المرة المصرية، على حالها السابقة.
وخلال سبعة عقود كاملة ارتكز التحالف السعودي ـ الأميركي على مقايضة واضحة وشفافة مفادها: النفط مقابل الأمن وما زالت هذه السياسة سائدة حيث وان السعودية قد اشترت مؤخرا من أمريكا 4 سفن مقاتلةlittoral combat ships بثمن يقدر بأكثر من 11 مليار دولار كما باعت المصانع الأمريكية قنابل متطورة smart bombs لاستخدامها في ضرب الحوثيين في اليمن بمليار ونصف مليار دولار.
لكن يبدو إبرام الاتفاق النووي مع إيران أنهى التحالف المشار إليه بالشكل الموصوف، لأنه جعل واشنطن حَكَما في الصراع بين السعودية وإيران، بعدما كانت أميركا طرفا أصيلا مع السعودية في كل معاركها الإقليمية خلال السبعين سنة الماضية.
ويزيد من الأمر فداحة -من المنظور السعودي- أن الاتفاق النووي بين إيران والغرب لم يبق فقط على الحضور الإقليمي الإيراني، بل ربما حتى قام بتقنينه دوليا، بمعنى أن الاتفاق النووي تمحور على كبح البرنامج النووي الإيراني عند مستوى ما دون إنتاج القنبلة لمدة تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، مقابل رفع العقوبات الدولية على إيران.
هنا تحتفظ إيران بحضورها الإقليمي المتراكم منذ احتلال العراق العام 2003، وتستعد لتفاهمات/مقايضات مع الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة. ومع تنامي هذا الحضور، ذهبت بعض التقديرات إلى اعتبار أن أهمية إيران ما بعد الاتفاق النووي في العيون الأميركية ربما تفوق أهمية السعودية النفطية غير المنكورة، لجهة تسوية الملفات الإقليمية العالقة.
ولعل الأصداء الدولية للأزمة الإيرانية ـ السعودية الناشبة بعد إعدام الشيخ النمر تؤكد هذه التقديرات، لأن ميل غالبية وسائل الإعلام الأميركية نحو إيران في الأزمة كان واضحا للمتابعين. وللتدليل على ذلك لم تُظهر سوى صحيفة «وول ستريت جورنال» انحيازا إلى السعودية، في حين كان واضحا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ انحياز «نيويورك تايمز» و«هافنتغتون بوست» و«لوس أنجلس تايمز» و«بوليتيكو» إلى إيران.
وكما هو متوقع بعد الاتفاق النووي مع إيران، فلم تبد إدارة أوباما انحيازا ملحوظا إلى أي من الطرفين، بل حاولت قدر الإمكان النأي بنفسها عن الصراع الضاري بينهما. ولا يبدو في الأفق ممكنا أن تغير إدارة أوباما نظرتها إلى الشرق الأوسط وأدوار اللاعبين فيها، إلا أن دخول أوباما حقبة «البطة العرجاء» -مثل أي رئيس أميركي في سنة ولايته الأخيرة- يفتح أبواب الأمل أمام الرياض في انتخاب رئيس جمهوري العام المقبل، الأمر الذي يعيد الحيوية التي كانت إلى التحالف السعودي ـ الأميركي. حتى ذلك الحين تحاول الرياض هندسة اصطفافات إقليمية جديدة لتحجيم إيران، لكسب الوقت ومنع طهران من جني ثمار اتفاقها النووي إقليميا.
وهنا تتوجه السعودية إلى التحرك إقليميا خارج المظلة الأميركية، عبر محاولة عزل إيران إقليميا وتمتين «التحالف السني الكبير» كرافد جديد في مواجهتها مع إيران. فمباشرة قبل إعدام الشيخ النمر، أعلنت السعودية عن «تحالف إسلامي كبير لمناهضة الإرهاب» يضم دولا عربية وإسلامية من داخل وخارج المنطقة - استبعدت منه إيران والعراق وسوريا. ومباشرة أيضا بعد قطع السعودية علاقاتها مع إيران، حذت البحرين والسودان حذوها. وقامت الإمارات بتخفيض مستوى التمثيل الديبلوماسي مع إيران واستدعت الكويت سفيرها في طهران ونددت سلطنة عمان باقتحام السفارة السعودية، ومن المتوقع أن يخرج وزراء الخارجية العرب ببيان تضامني مع السعودية ومندد لإيران. ومثلما كان الغطاء المذهبي مناسبا لإيران كي تمدد حضورها الإقليمي، تفعل السعودية الأمر ذاته الآن ولكن في الاتجاه المعاكس.
تحتاج التحولات الكبرى في موازين القوى إلى الوقت لظهورها بوضوح، لذلك تدفع السعودية والدول العربية اليوم ثمن احتلال العراق في العام 2003، وتحوله بمرور الوقت من حاجز شاهق أمام إيران إلى قاعدة وثوب لها نحو المنطقة. لا يعني ذلك انحيازا سياسيا لأحد الأطراف العراقية، وإنما تقريرا لحقيقة جيوسياسية واقعة. لا ترغب السعودية في الاعتراف بالواقع الإقليمي الجديد وموقع إيران في القلب منه، لذلك تختار التصعيد حفاظا على سلطتها ونفوذها الإقليميين. ظروف السعودية صعبة في السباق مع الزمن، فليس السقف الدولي فقط ما يؤرقها على أهميته الفائقة، بل الوضع الإقليمي الذي لم يعمل لمصلحتها في الفترة الماضية.
لم تستطع الرياض تحقيق نصر واضح على الحوثيين وقوات على عبد الله صالح في اليمن بعد شهور من المعارك هناك، برغم المال السياسي الكبير الذي استثمرته الرياض في المعارك الحربية. وبدوره، يستلزم التراجع في أسعار النفط وعجز الموازنة السعودية الناتج عنه والمُقدر بمئة مليار دولار للعام الجاري، إجراءات ليست سهلة. ومن هذه الإجراءات رفع الدعم كليا أو جزئيا عن بعض السلع، وتقليص الإنفاق العام وفرض ضرائب جديدة، ما يعني أن «العقد الاجتماعي» القائم بين الأسرة الحاكمة والمواطنين السعوديين على قاعدة الرعاية الاقتصادية مقابل الحريات المدنية والحقوق السياسية، سيتعرض إلى اختبار قاس في المرحلة المقبلة.
بالمقابل، انتظرت طهران ثمار الاتفاق النووي طويلا، ويبدو أنها ستنتظر لفترة إضافية غير محددة حتى ترفع العقوبات عنها بالكامل. مثلها مثل السعودية، تعتمد إيران على النفط في ظل تراجع أسعاره، وبالتالي حتى لو عادت إلى السوق النفطية العالمية قريبا، فالمتوقع أن تكون الإيرادات في مستوى أقل كثيرا من تطلعات الإيرانيين. كلا الطرفين أمام استحقاق داخلي حاسم قريبا: مجلس الخبراء الذي يقرر هوية المرشد في إيران، وحسم المواقع داخل العائلة الحاكمة السعودية.
منطقيا، لا يناسب التصعيد الإقليمي إيران الآن، ليس لأنها تعف عن المنازلات، وإنما انتظارا لفترة مقبلة تزداد فيها قوتها اقتصاديا بعد رفع العقوبات وتحصد فيها الاعتراف العلني بمكانتها دوليا فتعود إلى تلك المنازلات بقوة أكبر. ربما لذلك السبب أيضا اختارت السعودية التوقيت الحالي للتصعيد مع إيران. هنا يتبادل الطرفان السعودي والإيراني الأدوار: إيران أحمدي نجاد اختارت التصعيد بهدف قلب التوازنات الإقليمية المائلة وقتذاك إلى جانب السعودية، والسعودية محمد بن سلمان تختار التصعيد الآن لقلب التوازنات الإقليمية المائلة لمصلحة إيران.
يمثل إعدام الشيخ النمر حلقة في سلسلة متصلة من الكباش المحتدم بين الغريمين السعودي والإيراني، والمتوقع أن يتدحرج أكثر خلال الفترة المقبلة، تحت سقف دولي متغير وفي إطار إقليمي محتدم وعلى خلفية استحقاقات داخلية حاسمة، وكالعادة.... باستخدام الشعارات المذهبية الفاقعة!
قال روبرت باري في مقال حديث أن أمريكا قد تجاهلت منذ قرون ما تمثله السعودية من نشر الدعوة الجهادية وقمع المرأة وارتكاب مذابح الإعدام ضد المتمردين وتمويل ودعم القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى في مقابل حصولها على النفط وشراء السعودية لكميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية مقابل منحها ضمانات أمنية، وهي صفقة مع الشيطان حان إعادة النظر فيها.
وكان الرئيس أوباما قد زار السعودية زيارة رسمية في 27 يناير 2015 وقد تجاهل بوش حتى مع تقرير من 28 صفحة يبين العلاقة بين السعودية والإرهابيين وتبعه أوباما في ذلك.
و الملاحظة الهامة هنا هي هل يقبل صقور المحافظين الجدد والليبراليون، وهم قوة لا يستهان بها، الاستمرار في دعم السعودية وإسرائيل بوصفهما بحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط خاصة وأن السعودية أسست تحالفا ضمنيا إقليميا مع إسرائيل وانحازت مع الغرب ضد ايران ورغم أن القوي المناوئة الأخرى هي ايران وحزب الله وحكومة بشار والروس تناسب أهداف إسرائيل، ولكن كلا من السعودية وإسرائيل خلعتا قناعاتها الإنسانية وبدت في صورتها الحقيقية بالقمع العنيف الذي اقتربت إسرائيل به من جريمة إبادة الجنس الأمر الذي انعكس على الحملة الانتخابية الرئاسية بتذمر بعض المرشحين من الأفعال الوحشية الإسرائيلية على يد نتانياهو.
ورغم انه ينظر في واشنطن للسعودية كقوة وسطيةModerate فان هذا الوصف يبدو هزليا لأنها تزود السنة والجهاديين والنصرة في سوريا بالسلاح بما فيها صواريخ TOW الأمريكية وغيرها من الأسلحة الحديثة. وضربت الحوثيين في اليمن الفقيرة بقنابل الطائرات. وبإعدامها للمعارضين اقتربت من جرائم داعش.
ولقد لوحظ في المتقدمين للترشيح في معركة الرئاسة أن ساندرز الجمهوري يحبذ إعادة النظر في سياسة أمريكا في الشرق الأوسط وربما اقترب أوباما في سنته الأخيرة من هذا الاتجاه ولكن هيلاري كلينتون لا تشارك في هذا التوجه مؤيدة من المتطرفين من المحافظين الجدد والليبراليين المتطرفين.
كذلك اتهم الكاتب دانيل لازار السعودية بتمويل ومساعدة داعش.