كتاب عربي 21

مستحيل أن ينكسر ربيع العرب... لماذا؟

1300x600
كثيرة هي الدعوات التي استثمرت حالة الفوضى ما بعد الثورية واستغلت ارتباك المسار الانتقالي لتبشر بنهاية الربيع العربي، وبأن ثورات الشعوب لم تجلب غير الخراب والدمار والفوضى والموت العابر للحدود. هذا الخطاب بُنيت عليه الدعوة إلى استحضار محاسن الاستبداد بما هو أفضل الممكن مقارنة بالحالة التي عليها الأمة اليوم، وهو في الحقيقة دعوة إلى إقناع الشعوب بأن تبقى تحت رحمة الطغاة محرومة من الحرية والكرامة والحق في تقرير المصير. 

هذا الخطاب يصدر أساسا عن ثلاثة مصادر، أولها أبواق الثورات المضادة عبر منصات إعلام الاستبداد الرسمي والناطق باسمه، وثانيها خطاب الطبقات والقوى المستفيدة من بنية النظام الاستبدادي لارتباط مصالحها أساسا به، ولأنه لا يمكنها أن تعيش إلا في ظله بما يحققه لها من مكاسب وامتيازات لا تستطيع أن تحققها بنفسها. أما المصدر الثالث لهذا الخطاب فتمثله القوى الدولية التي تأثرت مصالحها أو قد تتأثر بسقوط الأنظمة الحارسة لهذه المصالح، وهي في الحقيقة قوى تقع خارج المجال العربي.

البنية الثلاثية للمكون الراعي لخطاب الثورة المضادة تتميز بخاصية فارقة وهي تقاطع المصالح والأهداف التي عليها يتأسس توحد الخطاب المعادي للربيع العربي أو المناقض له. وهو خطاب يقوم على فكرة محورية جوهرها أن الثورات لم تجلب غير الخراب والدمار والموت المنتشر في كل مكان.

للفكرة تداعيات كثيرة تتوزع على طيف واسع يتراوح بين القول بالصدفة التاريخية وبين المؤامرة العالمية، ومن أهم هذه المعطيات: 

أن العرب أمة لم تنضج تاريخيا لتقوم بثورة تحقق بها مدخلا للكرامة والحرية، وهو رأي رغم علاته يعترف على الأقل بمطلب الحرية كضرورة اجتماعية للفرد والمجموعة. وهو معطى يختلف عن معطى آخر أكثر تطرفا يرى أن العرب أمة لا تصلح للديمقراطية، وهو في تطرفه هذا يلغي مطلب الحرية كضرورة اجتماعية وسياسية عن الأمة العربية. أما المعطى الأهم والأكثر رواجا فهو ذلك الذي يرى في الربيع العربي وما صاحبه من ثورات مؤامرة خارجية جاءت لتفتيت المنطقة، رابطا إياها بتصريحات أمريكية قديمة تقوم على مبدأ نشر الفوضى في الأرض العربية وإعادة تقسيمها من أجل مزيد من السيطرة عليها.

ليس هدف هاته التصريحات سوى محاولة يائسة لشيطنة الثورات ووأد الرغبة في التغيير بما هي رغبة تسعى جامحة إلى فرض وعي بديل عن الوعي القائم يفرض خلاصة انكسار الثورات وضياع حلم الجماهير. هذه الخلاصة هي في الحقيقة مستحيلة الإنجاز موضوعيا، لأنه لا يمكن عمليا الانقلاب على الثورات بشكل عام لأنها بكل بساطة فعل تاريخي واجتماعي وحضاري لا يمكن إلغاؤه. فالثورات العربية الأخيرة هي فعل في الزمن وليست فقط فعلا في المكان، أو حدث تاريخي واجتماعي يمكن إلغاؤه والقفز عليه.

إن ما حدث خلال السنوات الخمس من عمر الربيع العربي هو إشعار بأن النظام الاستبدادي الإقليمي بشكله القديم قد بلغ نقطة اللاعودة، وأنه لا يمكن أن يتواصل بالنسق نفسه وبالخصائص نفسها. فقد انهار جدار الخوف النفسي الذي كان يحصن الاستبداد، وعرفت الجماهير طريقها إلى التعبير الحر، وإلى التعبير عن وعي جديد ناشئ هو أعظم مكاسب الأمة بعد قرون من الطاعة والخضوع.

لكن اللحظة الانفجارية التي أنجزتها تونس ثم مصر، باعتبارهما رأسي الموجة الثورية الأولى، هي في نظرنا أهم منجز ثوري، لأنها أدت إلى سقوط رأس النظام في شكله السياسي رغم بقاء دولة العمق فاعلة، ورغم قدرتها على العودة من جديد، كما هو الحال في مصر عبر الانقلاب العسكري الدامي، أو في تونس من خلال المسار الانتقالي المتعثر ورجوع رموز الدولة العميقة إلى تصدر المشهد السياسي.

بناء عليه، وفي قراءة سريعة للشروط التي أنجزت ثورة الفقراء والمعطلين والمسحوقين من أبناء الأمة، فإن المطلب الاجتماعي بالعدالة والكرامة والحرية كان على رأس المطالب التي من أجلها خرجت الجماهير. هاته الشعارات التي تأسست على مطلبين أساسيين وهما مطلب الحرية ومطلب العدالة مازالت شروطها قائمة، وهي تنذر بتجدد الموجات الانفجارية رغم كل الجهود التي بُذلت لدفنها.

من هنا، فإن بقاء الأسباب التي ولّدت الثورات قائمة مع إضافة الوعي الجديد بجرائم الاستبداد وتوحش الدولة القمعية، الذي ظهر عبر الانقلابات الدامية خاصة في مصر أو عبر الحرب الاستعمارية في سوريا، هو الذي يؤكد استحالة انكسار الربيع العربي أو دفن ثوراته.

فليس من حلّ أمام الأمة التي انفتحت عليها كل الأطماع الاستعمارية إلا توحيد جهود القوى الحية فيها من أجل إيقاف حمام الدم القائم، ومنع المنطقة العربية من التفتت بفعل تحالف الاستعمار والاستبداد بهدف إرجاع الشعوب العربية إلى بيت الطاعة الذي لن تعود إليه أبدا.