وفق الحسابات الاستراتيجية، أخفقت تجربة كوريا الشمالية الصاروخية التي أدانها مجلس الأمن الدولي باعتباره ممثلا وحيدا للشرعية الدولية!
فبقليل من الحكمة والدبلوماسية -وتحت شعار الحرب على الإرهاب - كان يمكن لكوريا الشمالية توجيه تجاربها الصاروخية لمخيمات اللاجئين الروهنجية والسورية والعراقية والأفغانية والكشميرية، لتكسب تأييد المجتمع الدولي واصطفافه وراء إنسانية كوريا الشمالية.
من قال إن المجتمع الدولي حفنة من الدول تحكم علاقاتها تحالفات مصلحية فقد أصاب جانبا من الحقيقة. إن الشرعية الدولية اليوم تحكمها -في الجانب الآخر- مبادئ وقيم أخلاقية عالمية تصنع الفرق بين مجتمعات ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية... مبادئ أخلاقية تضمن لك حرية الاختيار في كل شؤونك الحياتية؛ رأيك، صوتك، دينك وحتى جنسك بكل حرية. ولكنها في الوقت ذاته حرية مسؤولة، لأنك المسؤول -أولاً وأخيراً- عن عواقب خياراتك في حياتك وبعد مماتك.
من حقك مثلا أن ترفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ومن حق النظام الدولي أن يفرمك -تبعا لذلك- ككفتة عبد العاطي الشهيرة في المقابل. فمن باب تحملك مسؤولية اختيارك السيئ هذه المرة، يمكنك تعلم حسن الاختيار في المرة المقبلة -إن وجدت-.
أن تكون سنيا؟ لا بأس، فأين المشكلة؟ من حقك بالطبع أن تكون سنيا كما تريد، ولكن تحمل مسؤولية اختياراتك. وبما أن الدنيا سجن المؤمن، فالاستراحة منها -بالطريقة التي تناسب اختيارك الجريء- تكون من خلال الشحن إلى الجنة عن طريق المخابرات الجوية إلى الحشد الشيعي إلى الأمن السياسي إلى أمن الدولة إلى حزبالة إلى الصواريخ الذكية انتهاء بالبراميل الغبية، ولك الخيار بكل حرية ومسؤولية.
واقع لم يخطر ببال يعبر مفكرنا الراحل مصطفى محمود رحمه الله، الذي لو عاش أيامنا الروسية بنكهة اتفاقاتها النووية -وغير النووية- الأمريكية الإيرانية، لشطب كل كلمة "لا" وردت في عباراته التي لا تخلو من المنطقية:
"لا مانع عندهم أبدا من أن نصلي ونصوم ونحج ونقضي ليلنا ونهارنا في التعبد والتسبيح والدعاء..
ونقضي حياتنا في التوكل ونعتكف ما نشاء في المساجد، ونوحد ربنا ونمجده ونهلل له ..
فَهُم لا يعادون الإسلام الطقوسي؛ إسلام الشعائر والعبادات والزهد.
ولا مانع عندهم في أن تكون لنا الآخرة كلها، فهذا أمرٌ لا يهمهم ولا يفكرون فيه بل ربما شجعوا على التعبد والاعتزال، وحالفوا مشايخ الطرق الصوفية ودافعوا عنهم، ولكن خصومتهم وعداءهم هي للإسلام الآخر!!
الإسلام الذي ينازعهم السلطة في توجيه العالم وبنائه على مثاليات وقيم أخرى..
الإسلام الذي ينازعهم الدنيا ويطلب لنفسه موقع قدم في حركة الحياة..
الإسلام الذي يريد أن يشق شارعا ثقافيا آخر، ويرسي قيما أخرى في التعامل، ونماذج أخرى من الفن والفكر..
الإسلام الذي يريد أن ينهض بالعلم والاختراع والتكنولوجيا، ولكن لغايات أخرى غير التلسط والغزو والعدوان والسيطرة..
الإسلام الذي يتجاوز الإصلاح الفردي إلى الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الحضاري والتغيير الكوني..
هنا لا مساومة ولا هامش سماح.. وإنما حرب ضروس..
هنا سوف يطلق الكل عليك الرصاص.. وقد يأتيك الرصاص من قوى سياسية داخل بلدك نفسها".
انتهى الاقتباس.
الرصاص والفسفوري والكيماوي وعابر القارات نصيبك اليوم لو كنت سنيّاً ملتزما أو سنيّاً مغيّباً أو سنيّاً أهبلا ساذجا. ويكفي أن يكون أباك سنيا كي تنعم بامتيازات اللقب باختيارك أو من غير اختيارك.
ليس هذا فحسب، فإن لم تكن سنيا وارتكبت غلطة العمر ودافعت -كطرزان أو روبن هود- عن حقوق السنة، سيخرجك الكل خارج الاعتبارات الإنسانية، كناشط الحقوق المدنية الإيطالي جوليو ريجيني الذي تمنى الموت تحت هول تعذيب أجهزة أمن الانقلاب المصرية، راشيل كوري ناشطة السلام الأمريكية التي سحقتها جرافات الهدم العنصري الصهيونية، وأطوار بهجت الإعلامية العراقية التي ثقبت جمجمتها مثاقب الحقد الطائفية الشيعية. والرسالة هنا: من أنت كي ترفع صوتك بعكس تيار الشرعية الدولية التي لا تمن على دماء نشطاء الحرية ولو بلجنة تحقيق وهمية؟
صورة سوداوية مفادها إخراج الشرعية الدولية المكون السني وكل من يدافع عن حقوقه -عمليا- من الدائرة الإنسانية لا تعني -أبداً- الاستسلام لهذه التجربة الغنية، بل توخّي الاستجابة الإيجابية لتحدي "أن تكون سنيّاً" على قاعدة "قاوم ضد الإعصار" الأبدية.
من يأتيك غازيا لانتزاع روحك وأرضك وإنسانيتك ومستقبل أولادك، فمنطق الرد عليه تختصره أبيات شعرية:
انتفض أو مُت إذا شئت شهيــــدا
فحديد الموت قد فلّ الحديــــدا
فجِّـر الأرض ودعْهــــا شعلــةً
قطِّع البـــاغي وريدا فــوريدا
سمِّهــا إن شئت عنفا أو فـِـدا
أو قصــاصا أو دفــاعا أو صمودا
يا شهيد الحـــق أيقظ أمتـــــي
في الإذاعات غناء ونشــــــيدا
خــذ دمــي حبــرا وجــلدي دفتــرا
واكتبُ فيـــه خـــلودا يا شهيـــــــــدا
وبغير ذلك تُخاطب المجتمعات الإنسانية باللغة التي تفهمها، ففيها المنصف وفيها المغيّب وفيها ما دون ذلك. حتما سيتهمونك إذ تحدثهم عن أحرارهم ممن قدموا أرواحهم دفاعا عن حقوقك الإنسانية. ومن ذلك أن يتصدى أحرار المهجر لتوظيف فضيحة تعذيب وقتل ريجيني وكوري وغيرهما كمثال لما يعانيه كل حر وكل سُنّي تحت مطرقة الاستبداد الدموي والطائفي -في الشرق- بدعم من المجتمع الدولي في الغرب. ويدخل فيما تقدم التعاون مع أسر القتلى والجماعات الحقوقية في تنظيم فعاليات تلفت الأنظار نحو عدالة القضية وأقلها اعتصام واحتجاج وتظاهر، يتوازى مع إطلاق مبادرات ومراكز إعلامية تعرض حقائق الشرق لمغيّبي الشرق والغرب -كما يقترح الزميل أبي أسامة الغامدي-.
في عرف أعداء الإنسانية؛ أن تكون سنيا شيء جميل، لكن مكانك -برأيهم- هو العالم الآخر.
خلاصة القول: خطاب قراصنة العصر أفلس إذ يقتصر على محاربة ما يسمونه إرهابا سنيّاً، ويعتبر -بلا استحياء- كل سُنّي مشروع خلية نائمة داعشية، وما داعش سوى بضاعتهم ردت إليهم. وما رسالتهم أن كونك سنيا يعني أنك -أبا عن جد- خطر على الإنسانية، سوى تفكير إجرامي يشرع كل ممارسات الإبادة الطائفية والانحطاط والإرهاب العنصرية، لكنه يعطي -في المقابل- المشروعية الأخلاقية لكل مقاومة شرعية، وسيعلم الذين ظلموا -فأرهبوا وشبّحوا وأبادوا- أي منقلب ينقلبون.
* الخبير والمحلل الاستراتيجي
Twitter: @j_saqr