مازالت تلوح في الأفق إرهاصات عودة العلاقات التركية
المصرية خاصة في ظل سعي دول عربية لذلك، وانعقاد مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي بتركيا في أبريل القادم وتسليم رئاسة المنظمة من الرئاسة الحالية التي تتولاها مصر إلى الرئاسة التركية. فهل رجوع هذه العلاقة سيكون مجديا لأطرافها؟.
إن التاريخ في دروبه يعكس عمق العلاقة بين الشعبين التركي والمصري، بل كانت الحكومات أيضا على صلة وثيقة حتى جاء الانقلاب العسكري الدموي بقيادة عبد الفتاح
السيسي ليقضي على أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر، وكان رد فعل
تركيا قويا برفض هذا الانقلاب وتبعاته وهي التي ذاقت مرارة الانقلابات العسكرية من قبل، وما زادتها إلا قهرا وتخلفا، حتى جاء حزب العدالة والتنمية ليحكم تركيا ويعود بها إلى مكانها المأمول في الاقتصاد العالمي لتحتل المركز السادس عشر من بين أكبر الاقتصاديات على مستوى العالم وسادس أكبر اقتصاد بالمقارنة بدول الاتحاد الأوروبي.
وقد تعززت العلاقات الاقتصادية التركية المصرية من خلال اتفاقية التجارة الحرة عام 1976، وإلغاء الضرائب بين الطرفين عام 1993، واتفاقية التعاون الاقتصادي والتقني عام 1994، وتجديد اتفاقية التجارة الحرة عام 1996والتي تم بمقتضاها إلغاء تأشيرات الدخول بين مصر وتركيا بالإضافة إلى السماح بفتح فروع للبنوك التركية في مصر وكذلك فتح فروع للبنوك المصرية في تركيا فضلا عن زيادة عدد الرحلات الجوية بين البلدين. كما عقدت اتفاقية الخط الملاحي "الرورو" بين البلدين في أبريل 2012 لمدة ثلاث سنوات.
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد تم التوقيع على برتوكول إنشاء أول مدينة صناعية تركية مصرية بمدينة السادس من أكتوبر بمساحة تقدر بمليوني متر مربع لإنشاء 140 مصنعاً توفر أكثر من 20 ألف فرصة عمل للمصريين, وكذلك تأسيس شركة مشتركة لتوصيل الغاز المصري إلى تركيا من خلال الخط العربي الأردني السوري.، ووضع منظومة لتأهيل البنية الأساسية لخطوط النقل البري والجوي والبحري، وتكوين منظومة تعاون متكاملة تتمثل بنقل معامل التكنولوجيا التركية المتطورة إلى مصر. وتدريب الكوادر الفنية المصرية على الأجهزة والآلات المتطورة. فضلا عن قرض بمبلغ مليار دولار لدعم الاحتياطي من النقد الأجنبي بالبنك المركزي المصري في عهد الرئيس محمد مرسي.
و كان الاتجاه أن يصل حجم الاستثمارات التركية في مصر إلى عشرة مليارات دولار بحلول عام 2015. ولكن مع حدوث الانقلاب العسكري في مصر تأزمت العلاقات السياسية، وظهر أثرها على الجانب الاقتصادي حيث لم تجدد مصر اتفاقية الرورو التي انتهت في 29 أبريل 2015 كنوع من المكايدة السياسية –كما هو الحال في تقارب نظامها مع قبرص واليونان رغم معانتهما الاقتصادية- بعيدا عن المنافع والتكاليف الاقتصادية رغم أن هذه الاتفاقية كانت فرصة لمصر لفتح أسواق تصديرية للبضائع المصرية في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وجورجيا. وقد صرح وقتها وزير الاقتصاد التركي زيبكجي: إن الاتفاقية كانت تحمل أهمية رمزية، حيث كانت 2% من الصادرات التركية تمر عبر الخط إلى الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا. وأنه بعد عدم تجديد الاتفاقية من جانب مصر لا حاجة لخط بديل في ظل وجود قناة السويس، فضلاً عن إمكانية وصول البضائع التركية إلى الخليج العربي بسهولة عن طريق إيران أو العراق.
ويقدر حجم الاستثمارات التركية في مصر بمبلغ 2 مليار دولار، وفي المقابل لا توجد استثمارات مالية مصرية تذكر في تركيا. ويبلغ عدد الشركات التركية في مصر 280 شركة يعمل بها 52 ألف عامل مصري . كما أنه وفقا لبيانات البنك المركزي المصري عن العام المالي 2013/2014 جاءت تركيا في المرتبة الأولى لصادرات مصر لدول أوربا (1.4 مليار دولار) بنسبة 64.9% منها بمبلغ 909 مليون دولار. بينما بلغت مدفوعات مصر عن الواردات السلعية من تركيا 1.5 مليار دولار لتحتل المرتبة الثانية بنسبة 35.2% من الواردات المصرية من دول أوربا (4.3 مليار دولار). وأبرز الصادرات التركية إلى مصر الملابس الجاهزة ومواد البناء والحديد، بينما أبرز الصادرات المصرية لتركيا المواد الخام المختلفة.
وقد زار رئيس اتحاد الغرف التجارية والبورصات التركية مصر في نوفمبر 2015، وأكد عادل لمعي، رئيس مجلس الأعمال المصري التركي-حينئذ- أنه على مدار العامين الماضيين لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الإطلاق، بينما سجلت نموا تجاريا مقارنة بالأعوام الماضية. وفي المقابل كشفت مصادر حكومية مصرية عن تراجع الاستثمارات التركية، مع نظرة مستقبلية سلبية، خاصة مع ربط الإعلام المصري هذه الاستثمارات بتمويل عمليات الإرهاب، وإقدام إحدى الجهات الأمنية على مداهمة مخازن لشركة تركية كبرى تعمل في مجال تجارة التجزئة والسوبر ماركت وتملك سلسلة فروع بمصر بطريقة غير لائقة والاعتداء على بعض العاملين بها وإغلاق مخازنها بزعم وجود مخالفات الأمر الذي أثار استياء المستثمرين الأتراك الذين هددوا بالانسحاب من السوق المصري تماما وتقدموا بشكوى لجهات عليا. وهو ما دفع النظام الانقلابي المصري ممثلا في مؤسسة الرئاسة إلى إصدار تعليمات لجميع أجهزة الدولة بعدم التعرض للاستثمارات التركية وتقديم كافة التسهيلات لها طبقا للقوانين.
وعلى أية حال فإن الحكومة المصرية لم تغير سياستها أمام المستثمرين الأتراك رغم سوء العلاقات. كما أن مصر ما زالت تعتمد على المكاتب السياحة التركية لجذب السياح الروس لمصر. ورغم توقف حركة السياحة الروسية لمصر بعد سقوط الطائرة الروسية فإن اعتماد مصر على نفسها في ذلك يحتاج إلى ثلاثة سنوات على الأقل، و هو ما يبرز حاجة مصر للجانب التركي.
إن عودة العلاقات التركية المصرية قد يتيح لتركيا سوق تسويقي واعد في مصر من حيث عدد السكان والاستهلاك. ويسهم في التخفيف من العقوبات الروسية كأحد البدائل في ذلك، مع تفعيل اتفاقية التجارة الحرة، و التفكير في عودة الرورو، كما أنه يتيح لمصر تعزيز صادرتها خاصة من المواد الخام وخاصة أن تركيا تمثل أكبر مستورد أوربي من مصر.
ومع ذلك فإن عودة العلاقات لن تخلو من تكاليف ملحوظة لتركيا نتيجة لمناخ الاستثمار المصري غير المستقر، وارتفاع فاتورة الفساد وضياع معها حوافز الاستثمار، فضلا عن القرارات المصرية بتقييد الواردات، وعدم استقرار سعر الدولار، والأولوية الملحوظة في الاستثمارات لدولة الإمارات.
إن الواقع يكشف أن الحكومة المصرية تسعي حثيثا لعودة العلاقات لغلق منافذ المعارضة المصرية وخاصة المنابر الإعلامية التي تقلق نظام السيسي، وإذا كانت تركيا تبحث عن منافع اقتصادية من خلال عودة العلاقات، فإن منافعها ستكون محدودة مقارنة بتكاليفها، فمصر بحاجة إلى تركيا اقتصادياً أكثر من حاجة تركيا إليها. والاقتصاد المصري في حالة سيئة بعكس الاقتصاد التركي. والوضع الاقتصادي في مصر لا يسمح لها باتخاذ قرارات تؤثر على العلاقات الاقتصادية مع تركيا بشكل سلبي، لأن الاستثمارات التركية بمصر إنتاجية وليست ريعية، ويترتب علي تصفيتها تسريح آلاف العمالة المصرية ومن ثم مزيد من مشكلة البطالة.
كما أن وضع احتياطي النقد الأجنبي المصري لا يسمح في ظل التداعيات الحالية باتخاذ مصر قرارا برد الوديعة التركية. كما أن وزير الاقتصاد التركي في تصريح له قبل اتفاق الرورو ذكر أعلى الطموحات التركية بأنه يأمل أن يرتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 5 مليار دولار إلى 10 مليار دولار، ورفع حجم الاستثمارات التركية في مصر من ملياري دولار إلى 5 مليار دولار.
لذا فإن المكاسب الاقتصادية التركية ستتحطم على صخرة الخسائر المعنوية والمادية لتركيا، فليس هناك أكبر من الخسائر المعنوية لتركيا ممثلة في خسارة حب وتقدير ودعم العرب والمسلمين لها ولقادتها والذي منبعه وقوفهم مع الحق والمظلومين، وهو ما سوف يترتب عليه بالطبع خسائر مادية بعزوف العديد من العرب والمسلمين عن شراء المنتجات التركية، ولا يمكن بأي حال ترديد أن عالم السياسة فيه الغاية تبرر الوسيلة، فالسياسة المدنية في نظر ابن خلدون هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، والناس تتعلم الأخلاق والحكمة من الرئيس المسلم التركي أردوغان وحكومته، وأعتقد أن حكمة أردوغان وأخلاقه ومبادئه الإسلامية لن تسمح له بالاعتراف بحكم الانقلابي عبد الفتاح السيسي؛ حتى يتهاوى هذا النظام الانقلابي وينقلب إلى مزابل التاريخ.