كتاب عربي 21

فيلم مش ليبي..!

1300x600
في الثالث عشر من يناير من العام 2011، وعد العقيد معمر القذافي الجماهير الشعبية بالخروج إلى شوارع طرابلس قائدا لمظاهرة تطيح بالحكومة الليبية كتطبيق عملي لمقولته التي ضمنها كتابه الأخضر "السلطة والثورة والسلاح بيد الشعب". كان القذافي يحكم وقتها ليبيا منذ أكثر من أربعة عقود كاملة. وعندما خرجت الجماهير في عدد من مناطق الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، التي كان أسسها في الثاني من مارس 1977 كنموذج "فريد" في تدبير الحكم، لم يجد الأخ القائد غير طرح سؤاله الاستنكاري: من أنتم؟

يحاول ثلاثة أفراد بلباس ليبي تراثي رث إيقاظ النائب البرلماني مجاور بعد أن تعطلت به سيارته ودخل أرضا خلاء حيث سقط مغشيا عليه. مجاور متأنق في لباس عصري.

الشخص 1: أنت من؟

مجاور: كيف أنا من؟ أنتو ايلي من؟

الشخص 1: نحنا الليبيين. مناكش عرفنا ولا كيف؟

مجاور: ليبيين؟ تمام. حتى أنا ليبي راه.

الشخص 1: ها؟

ويبدأ الثلاثة في الاعتداء على مجاور ضربا وركلا وهم يجرونه بعيدا.

كان هذا مشهدا من فيلم (فيلم مش ليبي) للمخرج خالد الشيخي المنتج في العام 2015 من طرف هيئة الإعلام والثقافة الليبية حيث يقدم المخرج رؤية فنتازية لمستقبل كما حاضر ليبيا في ظل التشرذم الذي تعيشه محذرا من العودة إلى الحياة البدائية في حال استمرار الوضع على ما هو عليه. وكان حظ مجاور أحسن حالا من حظ معمر القذافي الذي تم اعتقاله ثمانية أشهر من سؤاله عمن يكون هؤلاء الذين تجرأوا على "الثورة" على الوكيل الأممي الحصري للثورة وقيادة الجماهير. يومها لم يسعف الحظ القذافي ليعرف من هؤلاء فقد استعجلوا قتله وعرض جثته مسجاة على مرأى الليبيين للتأكيد على أن عهد الجماهيرية انتهى، وأقفلوا دون سابق إنذار مرحلة تاريخية هامة لا يزال الجزء الأهم من حقائقها طي الكتمان.

في كهف من الكهوف يحاول مجاور التدليل على ليبيته أمام قائد المجموعة التي اعتقلته. آثار الضرب والتعذيب بادية عليه وحفلة الصفع لا تزال مستمرة.

الزعيم: كذاب، أنت ماركش ليبي.

مجاور: والله ليبي. أقسم بالله ليبي.

الزعيم: اثبت لي أنك ليبي.

لم يجد مجاور من سبيل غير سرد بعض الكلمات والأمثال الليبية.

الزعيم : طلع ليبي يا جماعة.

أفراد الجماعة: طلع ليبي يا مرحب بيه طلع ليبي ....

الزعيم: خلاص خلاص. شفت الليبيين الطيبين والأصليين. أول معرفوك ليبي داروا لك هيلمان. شفت ولا ما شفت؟

مجاور: شفتهم وعرفتهم. أصلا أول ما بدأوا فيا ضرب عرفتهم.

هكذا صار الليبيون يعرفون بعضهم بعضا. صراعات في الشرق والغرب وتنابز بالألقاب وتخوين واتهامات بالعمالة والارتهان للخارج، وغياب تام للدولة كما كانت بالضبط أيام سطوة الزعيم الأوحد الذي اختصر ليبيا في نفسه وأولاده. قتل القذافي واعتقل سيف الإسلام والساعدي وتوزعت بقية العائلة في المنافي. لكن وضع ليبيا لم يعرف الاستقرار منذ اليوم الأول ل"نجاح ثورة السابع عشر من فبراير". تناسلت الأحزاب والمنظمات لكن السلاح وحده ظل صاحب الكلمة الأعلى لدرجة أن القوانين لم تكن لتكتب إلا بحبر البنادق التي لا صوت يعلو على طلقاتها.

في خطابه الموجه لليبيين أياما بعد انطلاق "الثورة" قدم سيف الإسلام القذافي قراءته لمستقبل ليبيا فقال: ليبيا قبائل وعشائر وكل واحد قاعد في منطقته.. سنقتل بعضنا في الشوارع.. هل تتوقعون أن الليبيين إذا صار التقسيم وصارت الحرب الأهلية وفتنة حنتفق خلاص خلال أسبوع، شهر، سنتين وثلاثة على البترول وكيفية تقاسمه.. إحنا حنهاجر من ليبيا لأننا مش حنقدروا نديروا البترول ولا نقسموه.. حنحتاج إلى 40 سنة ثانية حتى نتفق على إدارة هذه البلد.

بعد خمس سنوات من "الثورة" صارت ليبيا مهددة بأزمة غذائية نظير نقص الدقيق حتى أنها هرولت إلى الجارة الشرقية مصر بحثا عن المعونة بعد أن كان المصريون يتوافدون على ليبيا عمالا مياومين. وصارت الكهرباء تنقطع أكثر مما تكون متاحة وتردت الخدمات من كل نوع. ليبيا "الدولة" النفطية بقيت وفية لروح الزعيم الخالد الذي أرادها لا دولة فقررت أن تبقى كذلك إلى أبد الآبدين. فقد خرجت ليبيا من "دولة" الفرد لتصير دولة "التشرذم" قرارها موزع بين طبرق وطرابلس بل في عواصم الأشقاء والأغراب. وبين برنارد ليون، الذي كان مجرد موظف لدى جهة مساهمة في إذكاء الانقسام، ومارتن كوبلر، الذي لا نعرف لمصلحة من يعمل حتى الآن، تكاد ليبيا تضيع فرصتها مع التاريخ، وأقصى الآمال صارت مقتصرة على التوافق على أسماء وزارية لتشكيل حكومة لا تكاد تظهر تباشيرها حتى تتحول كابوسا مزمنا.

يجتمع الشيخ (العاقلة)، الشخص الحكيم في فيلم (فيلم مش ليبي)، مع أجنبيين يستوطنان البلاد.

أجنبي 1: حاج شنو في مشكلة؟ أنت كثير غياب عن جلسات الحوار. أنت ما يجي حوار مغرب ولا حوار ظهر ولا حوار عصر. أنت يبغي حوار فجر؟ كل الجماعة منزعجين منك أنت.

الشيخ: بلغ جماعتك أني أكثر انزعاج منهم.

أجنبي 1: حاج، مفيش حد يقدر ينكر نضالكم الوطني بس إحنا لن نسمح بأن تكون ليبيا غابة.

الشيخ: الغابة مخليتش من الأسود.

أجنبي 2: إحنا نروض الأسود.

الشيخ: لا والله ما روضتم إلا القرود.

وفي الوقت الذي يتظاهر فيه مختلف الفرقاء بالمشاركة في الحوار الوطني تحت رعاية دولية، تمركز فاعل جديد يمكنه قلب كل المعادلات في الوسط بالضبط من بنغازي وطرابلس، رمزي الانفصال والتشرذم الليبي المستمر. في سرت التي عرفت ولادة القذافي ومقتله أيضا، تواصل "الدولة الإسلامية" بفرعها الليبي تثبيت دعائم حكمها غير بعيد عن آبار النفط، الثروة الوحيدة في المنطقة، تحت سمع وبصر العالم دون حراك. وحده قائد الانقلاب في مصر أصدر أوامره لقنوات الصرف الإعلامي التي تديرها مخابراته ببث الأغاني الحماسية على وقع طلعات جوية دليل دكه لمعاقل "الدولة" انتقاما لذبح أعضائها واحدا وعشرين قبطيا قبل شهور. أما ممثله خليفة حفتر، الذي ظهر في حالة تقرد كوميدية يعلن عن خطة طريق ليبية ذات فترة إفطار صباحي، فقد ظهرت محدودية قدرته على الفعل والتأثير.

لم يعد سرا أن ما يعتمل داخل سرت، التي يصفها الليبيون ب"دريسدن" الألمانية، حيث نزح السكان ونبذوا ودمرت البنية التحتية وهمشت احتياجات الساكنة، سيجعل أوروبا في نطاق الاستهداف المباشر كما سيجعل البترول الليبي تحت إمرة وتصرف تنظيم يعتبره الغرب، في تصريحاته، عدوا وجوديا ويرعاه في الواقع ويمنحه الحاضنة حتى يتمدد في كل اتجاه. في الأيام الأخيرة تصاعدت لهجة التحذير الأوربية لدفع الليبيين لتبني خيار حكومة الوحدة الوطنية التي وضعت حملها بمدينة الصخيرات المغربية وانسحب منها وزيران حتى قبل أن تصل لائحتها للبرلمان المعترف به للتصديق. ولأن المنتظر أن يرفض نواب طبرق أربعة آخرين بدعوى علاقاتهم مع النظام السابق، فإن الحكومة تكون قد ولدت ميتة في مهدها.

يواصل  سيف الإسلام القذافي: جايكم الاستعمار. حيرجعوا الأوروبيون والأمريكان. سيدخلون ليبيا عنوة. هل فكرتم أن أوروبا والحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية ستقبل بإمارة إسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط؟ هم لم يقبلوها في الصومال وأفغانستان وتريدون أن يقبلوها في ليبيا؟ أنا أبشركم، ستأتيكم أساطيل أمريكية وأوروبية وسيحتلونكم عنوة.

في الوضع الحالي الذي يعيشوه الليبيون، لن تعدم منهم من سيجيب: آمين... يا ليتهم يأتون.