الآن وقد ضحكنا كثيرا، بعد الخطاب "طويلة التيلة" لقائد الانقلاب العسكري في
مصر "عبد الفتاح
السيسي"، الذي امتد لساعة ونصف الساعة بشكل غير مسبوق، آن لنا أن نتوقف عن السخرية، لنقف على الجريمة التي تهدد مصر حاضرا ومستقبلا!
في البداية، أود القول إن السخرية من الخطاب لها أهميتها وما يبررها؛ ففي الثانية نحن أمام خطاب يمثل "مسخرة من العيار الثقيل"، وفي الأولى فإن السخرية من الخطاب وصاحبه، وبما ورد فيه ودون تجن، من الأمور المطلوبة في اتجاه كسر الهيبة، وهي السياسة التي نجحت في أن تضع "السيسي" في حجمه الطبيعي، فليس هو المسيح المخلص، وليس هو الدكر، وليس هو أعظم قائد عسكري بعد آيزنهاور، كما أنه ليس عبد الناصر. و يعد في الشكل والموضوع نموذجا مهما لزعزعة يقين العوام الذين كانوا يرددون أن مصر تحتاج إلى عسكري قوي وحاسم، بعد أسلوب "الحكم بالحكمة والموعظة الحسنة" في عهد الرئيس محمد مرسي!
لكن الاستمرار في السخرية إلى ما لا نهاية، يمثل عبثا لا يحتمله الوطن، الذي يواجه المخاطر ضمن "المهمة الأخيرة لحكم العسكر"، فمصر تدفع من "لحم الحي" كلفة حصول "عبد الفتاح السيسي" على الشرعية خارجيا، بعد أن ضن بها عليه الشعب المصري، وقد ضرب عصفورين بحجر بتنازله عن حصة مصر من المياه، وتمكين الأثيوبيين من بناء سد النهضة، بسعة التخزين التي يريدون ودون قيد أو شرط.
فهذا التمكين –أولا- هو ثمن لإعادة عضوية مصر للاتحاد الإفريقي، التي كان الاتحاد قد أسقطها بعد الانقلاب العسكري التزاما بقانونه الذي يرفض عضوية الدول التي وقعت فيها انقلابات عسكرية، وقد أعيدت العضوية بعد تنصيب السيسي رئيسا مع أنه إفراز لهذا الانقلاب، وكان الثمن مدفوعا من حاضر مصر ومستقبلها!
وهذا التمكين – ثانيا – يضمن له الاستمرار في حيازة الشرعية
الإسرائيلية والغربية بالتبعية، لتقربه لاسرائيل بالنوافل عن طريق تحقيق حلمها في وصول ماء
النيل إليها لاسيما لصحراء النقب، وهو الحلم القديم، عندما لا يكون أمام السيسي لضمان وصول مياه النيل إلى مصر إلا بتدخل إسرائيلي، وليتقدم "حامل رسائل العسكر" توفيق
عكاشة خطوة ترويجية، فيتحدث عن الواقع الأليم والجفاف الذي ستتعرض له مصر، ثم لا يجد حلا إلا بمقايضة مع السفير الإسرائيلي بالقاهرة بمقتضاها يطرح المذكور على السفير أن (يمد) إسرائيل بمليار متر مكعب من مياه النيل مقابل التدخل لدى أثيوبيا، دون أن نعرف الصفة الرسمية لعكاشة ليقرر أمرا كهذا ويطرحه على سفير له صفة رسمية، دون أن يضبط متلبسا بالتخابر، ودون أن نسمع ردا من المسؤولين عن الدولة المصرية، أو نقدا لهذا التصرف، الذي ينتقل بتوفيق عكاشة ليكون هو رئيس الدولة، الذي يعرض ويقرر!
"عكاشة" يمهد الأجواء لتهيئة الرأي العام لمد إسرائيل بمياه نهر النيل بأريحية، وقد نجد هناك من يوجهون للجانب الإسرائيلي الشكر للتدخل لدى الجانب الأثيوبي لضمان عدم موت المصريين من العطش. وقد قال عكاشة إن بلدته "المنصورة" تتأثر منذ الآن بسد النهضة وأن الفلاحين لا يجدون من الآن مياها لسقاية أرضهم، لتصبح "إسرائيل هي الحل". وقال بعد أربعة عشر شهرا ستعاني مصر من الجفاف، ولا أظن أن "عكاشة" يبالغ، فقد قلت مبكرا إن الفيضان لم يصل إلى بحيرة السد العالي في العام الماضي كما كان يحصل في كل عام، والتقطت اعترافات لمسؤول عن مرفق المياه أن مصر تتعرض للجفاف قريبا، إلى جانب تصريحات لمسؤولين عن المياه عندما يتم جلبهم للرد على شكاوى المواطنين، في بعض المناطق من عدم وصول المياه إليهم، وعندما تصل فإنها تأتي ملوثة، وفي الردود قال المسؤولون إن منسوب المياه قل إلى درجة عدم تمكن معدات الرفع من مهمتها، وعندما تعمل فإنها تجلب طينا!
بيد أني كنت أدق ناقوس الخطر، لجريمة السيسي التي ارتكبها مع سبق الإصرار والترصد، وبدا إثباتها يحتاج إلى قرائن عندما وقع على اتفاق المبادئ الذي منح أثيوبيا حق بناء سد النهضة. و"توفيق عكاشة" جاء ليدفعنا للتعامل على أن الجفاف قدر ومن ثم فلا بديل سوى خطب ود إسرائيل، بمدها بمياه النيل لعلها توافق وتتدخل لدى الجانب الأثيوبي.
الجفاف الذي صار قدرا ومقدورا، جاء في "الخطاب الأضحوكة" للسيسي، الذي أراد تمرير جريمته، عندما قال بأن هناك سدا يبنى وهناك سنوات لملئه ستؤثر على المياه التي تصل إلينا، وذلك في معرض تقديمه للإنجاز القومي والمشروع الوطني الذي ينبغي أن يلتف المصريون حوله، ويتمثل في معالجة مياه المجاري ليشربها الشعب المصري بالهناء والشفاء!
فالسيسي لم يكن من "أهل الغفلة" عندما تنازل عن حصة مصر التاريخية من المياه، لكنه ثبت أنه فعل فعلته وهو في كامل قواه العقلية، فهو يعلم أن هناك مخاطر ستتعرض لها مصر، ومع ذلك وقع على اتفاق المبادئ وعلى شرعية بناء السد، وفي الحقيقة إن له تصريحا سابقا راعني أنني الوحيد الذي علقت عليه، ربما لأنني كنت في الاستوديو ساعة خطابه الذي قال فيه هذا الإعلان، فاستمعت له باهتمام، وربما لأنه ألقاه بطريقة التمرير وهو يتحدث بمناسبة مشروع ضخم هو "صندوق تحيا مصر"، وكان التركيز كله على هذا المشروع الذي تقوم فكرته بتحول الدولة إلى متسولة، والذي أحيط ببروجاندا هائلة بهدف جذب الانتباه لهذا الحاكم الذي يمثل عبقرية اقتصادية ومعملية فذة!
قال السيسي إنه يحتاج إلى مئة مليار جنيه من المصريين لمواجهة مخاطر شح المياه الذي ستتعرض له مصر في السنوات القادمة. وكان هذا قبل توقيعه على اتفاق المبادئ بسد النهضة، بل في لحظة مد للثورة المضادة التي كانت تقوم دعايتها للسيسي ونقدها للرئيس المختطف محمد مرسي، على قاعدة أن الأول حمى مصر من استغلال أثيوبيا لضعف الثاني وكان وجود مرسي سيمكن أثيوبيا من بناء السد الذي سيحرم مصر من حصتها التاريخية من مياه نهر النيل، لكن الله سلم بتدخل الجيش "بيت الشجاعة الوطنية"، الذي يهابه الأثيوبيون، لأنه يذكرهم بالطلعات الحربية منذ عهد الفراعنة لخير أجناد الأرض لحماية نهر النيل!
وقد تتعثر محطة معالجة مياه الشرب نظرا لأسباب تتعلق بتمويلها، وقد تبنى لكن مع هذا يكون الخيار بين مشروع السيسي ومشروع "توفيق عكاشة"، الذي هو أيضا مشروع السيسي، فأيهما يفضل المصريون: مياه المجاري، أم التنازل عن الشعارات القديمة ويسمحون بمد إسرائيل بمليار متر مكعب من مياه النهر، مقابل أي حصة مياه يوافق عليها الجانب الأثيوبي بعد الوساطة الإسرائيلية، وربما في المستقبل لا نختار رئيسا إلا وفق المعايير الإسرائيلية حتى لا تحل علينا اللعنة وتمتنع أثيوبيا عن أن تفيض علينا من الماء، وبأي قدر ولو للشرب فقط، على أن يكون الاستحمام وري الأرض والاستخدامات الأخرى من مياه المجاري المعالجة!
لقد كان رفض اتفاقية السلام مع إسرائيل التي وقعها الرئيس السادات في سياق التهويل من عمالتها، بالقول إنها في الملاحق السرية نصت على مد إسرائيل بمياه نهر النيل ولم يكن هذا صحيحا، فالسادات وهو يناور كان يدغدغ مشاعر القوم بأنه عندما يعم السلام في المنطقة، وتصبح العلاقات الإسرائيلية العربية جيدة، فقد تأتي الخطوة الثانية وهي مد صحراء النقب بماء النيل، وهي المناورة التي تستخدم لرمي السادات بالخيانة العظمي، لكن الآن وعلى يد الانقلاب العسكري صارت الخيانة وجهة نظر، وفي سبيل استمرار السيسي رئيسا وبشرعية دولية، فلا بد من أن توافق إسرائيل عليه، والثمن ليس فقط بالتنازل عن حصة مصر من مياه النيل، لتصبح إسرائيل هي الضامن لوصول المياه إلى مصر بتوصيل هذه المياه إليها، ولكن بتحقيق التطبيع الشعبي الذي لم يقدر عليه مبارك، عندما يذهب السفير لقرية "عكاشة" ويعقد معه لقاء قمة في منزله الريفي، ويتم تسويق هذا على أنه من أجل مصلحة الوطن، ولضمان أن تتدخل إسرائيل لدى أثيوبيا.
إنه ثمن فادح تدفعه مصر من حاضرها ومستقبلها ومن أمنها القومي لأن يستمر السيسي رئيسا، فلا تجلدوا توفيق عكاشة فهو "خادم في البلاط"، و السيسي هو معركة مصر، ولو استمر في حكمه فقد يأتي يوم لا نعجب فيه إذا رفع السيسي في الانتخابات شعارا انتخابيا من ثلاث كلمات هو: "إسرائيل هي الحل" في مواجهة "الإسلام هو الحل"!
فماذا ننتظر؟!